المقالات

الحج… حين يكون النظام عبادة

ليست كل أرض تُقام فيها المناسك.
وليست كل بقعة تُسمّى “مشعرًا”.
فالمكان هنا… اختاره الله.
والزمان هنا… فصّله الله.
والأعمال… حُدّدت بأمرٍ من فوق سبع سماوات، لا باجتهاد أحدٍ من الأرض.

في الحج… كل شيءٍ توقيف.
توقيتٌ لا يتقدّم ولا يتأخر،
وأمكنةٌ لا تُبدَّل ولا تُزاح،
ومشاعرٌ لا تتعداها الأرواح.
ومن أراد الحج، فليدخل من أبوابه.
وليستفتِ قلبه قبل قدمه.
فالحج ليس عبورًا نحو فضل، بل إذنٌ من الله للوقوف في ساحته،
في حضرةٍ لا تُدرك بالتحايل، بل تُمنح بالقبول.

هنا… الحرم.
موضعٌ أُمر فيه إبراهيم أن يُنادي، وتكفّل الله بإيصال صوته.
مكانٌ لا يُنفر فيه صيد، ولا يُقطع فيه شجر، ولا تُلتقط فيه لُقَطَة، ولا يُخرج منه حصى.
كل ذرّة فيه تُسبّح، وكل خطأ فيه يُوجب فدية…
فكيف بمن يتجاوز بغير تصريح، ويتخطى بغير استحقاق؟!

الحج بتصريح… طاعة لا ورقة.
هو انضباط النية، لا ضبط الحدود.
هو تأمين للدعاء، لا قيدٌ على الداعين.
هو تعظيمٌ لشعائر الله، الذي قال:
{ذَٰلِكَ وَمَن يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِن تَقْوَى الْقُلُوبِ}.

ومن قال إن التصريح عثرة،
فليتأمل دموع امرأة عند الكعبة، تقول وهي ترتجف:
*“اللهم لا تجعل هذا آخر العهد ببيتك.”*
كانت دمعتها دعاء، ووقفتها تضرّعًا، وسكينتها أبلغ من كل احتجاج.

وفي زاويةٍ أخرى، انطلقت قافلة “الصحة” مع بزوغ الفجر،
تحمل 18 حاجًا من 12 جنسية،
رافقتهم 31 سيارة إسعاف،
قادها 133 طبيبًا وممارسًا ومسعفًا…
كلهم على دربٍ واحد: عرفات.
ففي الحج، حتى المرض لا يُسقط الركن.
بل يُكتب له سرير، ويُرسم له مسار، وتُهَيّأ له الرعاية،
لأن الحج بتصريح ليس تذكرة… بل تنظيم رحيم تُعينه دولة، ويباركه الله.

من رأى هذا الحشد المهيب،
من شاهد بعينيه كيف نُقل مليوني حاج خلال أيام الحج على متن قطار المشاعر،
وكيف تم توزيع ما يقارب مليون متر مكعب من الماء في يوم التروية وحده،
وكيف سهرت أكثر من 35 ألف كفاءة صحية لتقديم 1.3 مليون خدمة طبية،
وكيف انطلقت الكهرباء بسعة تعادل مدنًا… لا مشاعر،
علم أن هذا المشهد ليس مجرد حدث سنوي،
بل قصة وطنٍ يتقن خدمة الحرمين كما يتقن بناء الرؤية.

رؤيةٌ تسعى أن تستضيف 30 مليون معتمر و6 ملايين حاج بحلول 2030،
تُبنى اليوم عبر نسكٍ رقمي، وسكك حديدية، ومنشآت طبية، وتجارب إنسانية…
وتُدار بلغة تؤمن أن خدمة ضيوف الرحمن شرفٌ يُورث، لا وظيفة تُمارس.

وفي قلب هذه المنظومة المعجزة،
يظهر وجه مكة الحقيقي.
المدينة التي ليست كغيرها… فهي أم القرى
فيها الحرم، وفيها الأشهر الحرم،
وفيها أهلٌ يفهمون أن المجاورة شرف،
وأن التضحية فيه عبادة خفية.

فأهل مكة، الذين غمر الله أرضهم بالحرم، غمر قلوبهم بالورع والكرم، حتى صارت كنيتهم ‘المكاوي’ عنوانًا للفزعة، ورمزًا للضيافة. لا يفتحون بيوتهم فحسب، بل يوسّعون قلوبهم، ويفتحون صدورهم لوفودٍ كلها… ضيوف الرحمن. فاسم مدينتهم حج، وخدمتهم عبادة، وضيوفهم حجّاج، وغايتهم رضا الله.

أبناء المملكة من كل مدينة وقرية،
تراهم هناك: في المطار مستقبلين، في الميدان منظمين، في عرفات مرابطين،
رجالًا ونساءً، طلابًا وكشافة، أطباءً ومهندسين، تجارًا ومعلمين…
كلهم بلباس الوطن، وقلوبهم تلبس التقوى.

والمقيمون بيننا، من كل لسان،
يخدمون دعاءً قد لا يفهمون ألفاظه، لكنهم يعيشونه.
وفي كل يدٍ تسقي، وكل كتفٍ تُرشد، وكل جهدٍ يُبذل…
تُكتب نية خدمة الحاج قبل العمل.

هؤلاء جميعًا…
ما رفعوا شعارًا، بل رفعوا معنويات.
ما التقطوا صورة، بل رسموا مشهدًا.
هُم من جعلوا الحج بتصريح عبادةً محكمة، لا عشوائية محرجة، جعلوا النظام بابًا للطاعة… لا حاجزًا دونها.

ومن لم يستطع… فليدعُ الله بصدق.
فما حُجِب التصريح إلا لحكمة،
وما غابت الفرصة… إلا ليُحفظ الشوق.

ومن أراد الحج، فليأتِ من الباب الذي فُتح له.
فما شُرعت الأنظمة إلا لتُيسّر،
وما وُضعت التصاريح إلا لترعى القلوب قبل الأبدان.
فاحترام البيت… من توقير ربِّ البيت،
واحترام النظام… من تعظيم الشعيرة.
وإذا كان الحج دربًا إلى الغفران،
فما أجمل أن يبدأ هذا الدرب… بخطوة طاعة، لا تخطٍّ.

*الحج… حين يكون بتصريح، يصبح النظام عبادة، والعبادة طمأنينة. ويُصان به الدعاء، وتُكتب به القلوب… قبل الأقدام.*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى