في كل موسم من مواسم الحج، يتجدد الشوق في نفوس المسلمين لأداء الركن الخامس من أركان الإسلام، فيتحرك الملايين من مختلف أصقاع الأرض إلى بيت الله الحرام، ورغم ما تبذله المملكة العربية السعودية من جهود جبارة في تنظيم هذه الشعيرة العظيمة، برزت ظاهرة مقلقة في السنوات الأخيرة: الحج دون تصريح رسمي.
هذه الممارسة، وإن كانت تنبع من نية صادقة عند البعض، إلا أنها تخالف التنظيمات، وتحمل في طياتها مخاطر شرعية وأمنية وصحية جسيمة، ما يجعلها أقرب إلى مفسدة يجب دفعها، لا مصلحة يُغض الطرف عنها.
يخطئ من يظن أن النظام الإداري المتعلق بالحج هو إجراء دنيوي صرف، بل هو امتداد لمبدأ “المصالح المرسلة” في الشريعة الإسلامية، وهي القاعدة التي تبيح للولي الأمر اتخاذ قرارات تنظيمية إذا تحقق بها نفع عام واندفعت بها مفسدة.
وتنظيم الحج عبر نظام التصاريح أحد أبرز صور تطبيق هذا المبدأ في العصر الحديث، حيث تُحقق بذلك أهدافٌ كبرى، منها:
• حفظ النفس، وهو من الكليات الخمس في الإسلام. فقد أثبتت التجربة أن تجاوز الطاقة الاستيعابية للمشاعر المقدسة قد يؤدي إلى وفَيَات وإصابات جماعية.
• منع الفوضى والإخلال بالنظام العام، وهو ما يتنافى مع مفهوم “السكينة” الذي يجب أن يسود في مناسك الحج.
• ضمان العدالة بين الحجاج في الوصول إلى الخدمات والحقوق، فلا يزاحَم من التزم بالنظام بمن تسلل إليه خلسة.
من القواعد الفقهية الكبرى”: درء المفاسد مقدم على جلب المصالح”، ولو افترضنا وجود مصلحة في أن يؤدي شخص ما الحج دون تصريح، فالمفاسد المترتبة على ذلك – من تهديد أرواح الحجاج، وإرباك الجهات الخدمية والأمنية، وحرمان الحجاج النظاميين من حقوقهم – تفوق بكثير تلك المصلحة الشخصية.
والنبي ﷺ قال: “لا ضرر ولا ضرار”، فكيف يُتصور أن يكون الحج – الذي جعله الله رحلة تطهير وسلام – سببًا في إيذاء النفس أو غيرها؟!
ما لا يدركه البعض، أن من يؤدي الحج دون تصريح قد لا يتمكن من إكمال مناسكه، بسبب الحواجز الأمنية أو الحرمان من دخول المشاعر، فيقع في خلل في الأداء يطعن في صحة النسك ذاته. وهكذا تتحول النية الطيبة إلى عبء، والعبادة المرجوّة إلى مخاطرة.
بل إن الخروج على التنظيمات الشرعية لا يتسق مع مفهوم “الحج المبرور”، وهو الذي لا رفث فيه ولا فسوق ولا جدال، فكيف بمن يتجاوز حدود النظام، ويخلّ بالترتيب الذي أقامته الدولة لمصلحة الجميع؟!
الشوق إلى الحج لا يبرر المخالفة.
إن الاستطاعة شرط لوجوب الحج بنص القرآن والسنة، وتشمل الاستطاعة: القدرة البدنية والمالية
بل تشمل الاستطاعة النظامية وهو الحصول على تصريح الحج.
تنظيم الحج من صلاحيات الحاكم ولي الأمر، الذي أُمرنا بطاعته ، وقد قرر الفقهاء أن الطاعة في النظام العام عبادة، لا سيما إذا تحقق بها مقصد شرعي، كما هو الحال في تصاريح الحج.
لقد تحول الحج في العصر الحديث إلى مشروع ضخم تتكامل فيه جهود الدولة ، وتتداخل فيه معايير الأمن والصحة والنقل والإسكان. لذا فإن أداء الحج بغير تصريح لم يعد مسألة شخصية، بل تعدٍّ على النظام، وإضرارٌ بسلامة الجميع.
فلنتقِ الله في أنفسنا وفي مجتمعنا، ولنحترم التنظيمات التي شرعت لمصلحتنا. ولنعلم أن الطريق إلى الحج لا يُبنى بالمخالفة، بل بالصبر والانقياد، وأن انتظار أخذ التصريح طاعة، وفي الالتزام بالنظام بركة، وفي احترام القانون أجرٌفي الدنيا والآخرة وسلامة في النفس وللغير.