في زمنٍ تُختصر فيه المسافات وتُختزل المشقة إلى مقعدٍ في طائرة، أبحر ستة مسلمون بريطانيون من لندن إلى جدة، على متن قارب شراعي صغير، في رحلة امتدت تسعةً وخمسين يومًا. لم تكن المغامرة البحرية بطولها وقسوتها مجرد استعراض، بل نداءٌ صامت، يُعيدنا إلى الحقيقة التي تلاشت خلف ناطحات الرفاهية: أن الحج لم يكن يومًا راحة، بل طريقٌ تعبّده النية.
حين وصل القارب إلى شواطئ جدة، بدا وكأنه يحمل شيئًا أقدم من المحيط: شوقًا أنضجه الصبر، وعبادةً مضمخة بالملح والعرق. هذا القارب لم يشق البحر فحسب، بل شق طبقات النسيان في وعينا، ليذكرنا أن الركن الخامس كان وما زال امتحانًا في الإخلاص قبل أن يكون تنقلًا في الزمان والمكان.
لكن لماذا؟ لماذا يخرج الإنسان من بلده، ويترك راحته، ليقف تحت شمس حارقة على صعيدٍ لا ظل فيه؟ لماذا لم يجعل الله الحج صلاةً في المسجد الحرام وانتهى الأمر؟ لماذا نخرج إلى عرفات؟ نبيت في مزدلفة؟ نرجم؟ نتحلل؟ نذبح؟ لماذا الحج ليس كله طوافًا حول الكعبة؟
هذه ليست تساؤلات تشكك، بل تساؤلات توقظ. لأن هذا الدين لا يخاطب العاطفة فقط، بل يشحذ العقل. في كل خطوة، حكمة. في كل شعيرة، سر. وهذا الكون لا يُدار بفوضى، بل من لدن حكيم عليم.
الكعبة… بيت ليس كغيره من البيوت. بنيان بسيط، لكن لا قلب يُلامس بصره إلا وارتجف. فيها بدأ أول نداء، وعندها خُتمت الرسالات. حجرٌ وُضعه إبراهيم، فصار موطنًا لأرواح لا تُعد. فيها الحجر الأسود، نزل من الجنة، وشهد على العهد. عندها مقام إبراهيم، ووراءها حِجر إسماعيل. لم تَعُد الكعبة مكانًا، بل صدىً دائم لقول الله: “وإذ بوأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا تشرك بي شيئًا”.
لكن الغريب أن الحج لا يُؤدى فيها وحدها. كأن الله أراد أن نغادرها، لنعرف أن الطاعة ليست للمكان، بل لمن أمر بالمكان. أن نُترك في صحراء، فننصاع. أن نقف في عراء، فنتعرف. ولذلك كانت عرفة.
عرفة… ليست مجرد اسم. في عرفات لا بناء، ولا كعبة، ولا جدران. فقط وقوف. لكن من وقف فيها، كأنه وُلد من جديد.
ثم إلى مزدلفة، وكأن الرحلة تقول: بعد الانكسار، سكون. في مزدلفة لا يُشرع إلا الجمع، لا صلاة نافلة، لا ترف. فقط أرض تجمع فيها الحصى، وتجمع فيها أنفاسك، استعدادًا للرمي.
ثم إلى منى. حيث تُرمى الجمرات، لا لتُصيب الشيطان، بل لتُصيب الوهم داخلك. كل رمية تقول: لن أعود، كل حصاة تصرخ: لن أضعف، كل وقفة أمام الجمرة تذكير أن الشيطان يُهزم حين تقرر.
ثم هديٌ يُذبح. ليس لأنه فداء مادي، بل لأنه تذكير بإبراهيم، حين أسلم قلبه قبل ابنه. كل دم يُراق، يُكتب في ميزان خضوعك. ثم تتحلل. تقصّ شعرك، أو تحلقه، وكأنك تقول: انتهيت من ظاهر العبادة، وأبدأ من جديد من باطنها.
في الماضي، لم يكن الحاج يضمن نجاته. من وسط آسيا، ومن أقاصي إفريقيا، كانوا يمشون الشهور، ويُسرقون، ويُقتلون، ويموتون على الطريق. واليوم، أنت تصل خلال ساعات، في تكييف، وتوجيه، وخدمة، لكنك إن فقدت حضورك، فلا فرق بينك وبين السائح.
الدولة اليوم – حفظها الله – سخّرت قوتها وإدارتها لأجل هذا الركن. لم يعد الحج حدثًا دينيًا فقط، بل مشروعًا وطنيًا، يُدار بعقل الدولة، وقلب الأمة. من دوريات الأمن، إلى قطارات المشاعر، إلى تنظيف الحرم كل لحظة، إلى توزيع مياه زمزم، إلى جاهزية الإسعاف… كل ذلك ليس خدمة، بل شرف.
من يكنس البلاط، من ينظم الحشود، من يحمل حاجًا مسنًا على كرسي… كلهم في ميزان الحج. شرفٌ لا يقل عن شرف الوقوف بعرفة.
وإدارة الحشود؟ ليست تنظيمًا فقط، بل تجلٍّ للإيمان بأن النظام من الدين. حين ترى مليون إنسان يتحركون بخطة واحدة، تفهم أن الإسلام لا يعني العشوائية، بل التناسق مع القدَر، مع الإشارة، مع اللحظة.
الحج ليس فقط عبادة، بل توقيعٌ جديد على عهد قديم. هو رجوع. هو انكسار برقي. هو اعتراف ناطق: أنك عبد، وأنك تحتاج هذا الطريق لتتذكّر.
فيا من اشتقت… شوقك مقبول. ويا من تتردد… سؤالك هو البداية. كل من قصد البيت، كُتب له السعي، ولو على نية. وكل من خدم الحاج، سُجل في الركب، ولو لم يُلبِّ.
في الحج، يُعيدك الله إلى أولك. يُلبسك البياض، كأنك ميت تحيا من جديد. يُخرجك من بيتك، ليُدخلك إلى رحم المغفرة. يُريك الكعبة، ثم يُبعدك عنها، ثم يُعيدك إليها، لتعلم أن الله لا يُعبد بالمكان، بل بالطاعة.
*الحج: من المشقة إلى الرفاهية… ومن الغيب إلى المعنى*