عام

نقطة التحوّل: كيف تستعد الرياض لقرنٍ عاد من واشنطن

حين عادت طائرة ولي العهد من واشنطن، كان كثيرون يلتقطون صور المعادن والرقائق والصفقات والتحالفات. ما رأيته كان أبعد من المشهد السياسي والرقمي؛ كان ملامح قرن جديد يعود محمّلًا بطموحات تحتاج إنسانًا مختلفًا، وقدرة مؤسسية تعيش الإيقاع نفسه، وتعليمًا يصنع المستقبل بدل أن يفسّره من بعيد.

الزيارة أعادت ترتيب المفاتيح الثلاث:
مادة الصناعة،
طاقة استمرارها،
وعقلها الرقمي.
وعلى هذه المفاتيح يبقى العنصر الرابع الذي يُصنع هنا في الرياض: قدرة الإنسان على حمل هذا القرن على كتفيه. قدرة تُبنى بعمل عميق داخل الفصول والمعامل ومجالس القرار.

جيل “أزوريت” سيحتاج إلى ما هو أبعد من التعريفات. سيحتاج أن يرى دورة الليثيوم كاملة، وأن يفهم كيف تتحول الكهرباء إلى قدرة حوسبة، وكيف تتحول القدرة إلى ذكاء، وكيف يتحول الذكاء إلى قرار يخدم ملايين البشر. وسيتعامل مع نموذج رقمي لمدينة كاملة تعمل بالطاقة المتجددة، وتتنفس البيانات، وتعيش على إدارة الزمن قبل إدارة الجهد.

وفي قلب هذه المرحلة تأتي لحظة سعودية مهمة: حفل تخرج جامعة كاوست. وقف الأمير عبدالعزيز بن سلمان أمام 593 خريجًا من 45 دولة، وقال جملة تختصر هوية البلاد الجديدة:
“السعودية تولي الجدارة والموهبة أهمية قصوى… ومن يريد أن يكون معنا نحتضنه.”
ثم قدّم قصة الجد والأب والحفيد، ثلاثة أجيال احتضنتها هذه الأرض حتى أصبحت جزءًا من نسيجها العلمي، كدليل على أن المملكة تبني مستقبلها بالإنسان قبل أي شيء آخر. كانت تلك اللحظة إعلانًا أن البلد الذي يصنع الطاقة ويهندس المعادن ويقود الذكاء، يصنع أيضًا الإنسان الذي يقود كل ذلك.

التخصصات كلها تتحرك اليوم نحو تداخل واضح: الهندسة، والعلوم، والطب، والاقتصاد، والتقنية، وعلوم النفس، وعلوم التربية. لم يعد هناك علم مستقل عن الآخر. فالقرن الذي يتشكّل أمامنا يطلب عقلًا يرى العلاقات، يربط الفيزياء بالبرمجة، والبيانات بالسلوك البشري، والطاقة بالصحة العامة، والتعليم بقدرة الدولة على المنافسة.

مسؤولية الجامعات اليوم أكبر من تدريس المناهج؛ هي صناعة القدرة. القدرة على التحليل، وعلى اتخاذ القرار داخل منظومة معقدة، وعلى الربط بين ما يحدث تحت الأرض وما يحدث على شاشات مراكز البيانات. فالطالب بعد خمس سنوات سيدخل سوقًا يسأل عن قدرته على رؤية الصورة كاملة.

وفي هذه الصورة يظهر النموذج الذي صنعته وزارة الطاقة بقيادة الأمير عبدالعزيز بن سلمان، نموذج إداري هدفه هندسة الإيقاع: موظف جزء من عقل القرار، وبيانات لغة يومية، وزمن يُدار باعتباره مورداً سياديًا، ومنظومة تتحرك ككائن واحد. هذا الإيقاع يصلح أن يكون أسلوب دولة كاملة.

ومع هذه الحركية، تبقى قوة المملكة في اختيارها الدائم للاستقرار. قوة تمتلك أدوات التأثير وتستعملها لتهدئة الأسواق. حدث ذلك في النفط، وفي أوبك بلس، ويظهر اليوم في المعادن والرقائق والطاقة المتقدمة. فالعالم يثق في دولة تستطيع أن تغيّر الاتجاه وتختار التوازن. وهذه الثقة هي رأس المال السياسي الحقيقي للقرن القادم.

ما بعد واشنطن هو موسم بناء: بناء برامج دراسات عليا تولد من الجديد القادم، ومساقات ترتبط بالمعادن والذكاء والطاقة، وشراكات تُدخل الطالب في قلب المصنع والمعمل، ووزارات تتحرك بإيقاع واحد، وثقافة تحترم الزمن كما تحترم الميزانية، وجيل يرى نفسه جزءًا من مشروع أوسع من وظيفة أو تخصص.

وعندما تُجمع هذه الطبقات معًا، الإنسان والفكرة والقدرة والنظام، يتضح مسار المستقبل بالكامل:

القرن عاد من واشنطن… ويبدأ من الرياض.
ونقطة التحوّل الحقيقية هي نحن.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى