المقالات

كيف خرجت المملكة من زمن الاكتفاء إلى زمن كتابة قواعد اللعبة

في 18 نوفمبر 2025 كانت واشنطن تشهد لحظة لا تشبه أي لقاء سياسي مألوف.
مقاتلات F-35 تحلق فوق البيت الأبيض، أعلام سعودية تغطي الساحة الجنوبية، الرئيس الأمريكي يستقبل ولي العهد عند المدخل بنفسه. داخل المكتب البيضاوي تُفتح ملفات تُصنع بها العقود القادمة: استثمارات تقترب من التريليون دولار، اتفاقيات F-35، تعاون نووي مدني، شراكات في المعادن الحرجة، توسع في الذكاء الاصطناعي، وترتيبات حساسة لأمن البحر الأحمر.

وفي اليوم التالي بدا منتدى الاستثمار السعودي–الأمريكي كأنّه منصة اختبار لمستقبل الاقتصاد العالمي.
في الصف الأول جلس عمالقة التقنية والمال: Nvidia، xAI، Amazon، Google، Cisco، Blackstone، Boeing، Pfizer. إلى جانب ولي العهد ظهر كريستيانو رونالدو وإيلون ماسك في الصورة الرسمية، كإشارة أن القوة الناعمة أصبحت جزءًا من رسائل الدولة. خلال ساعات أُعلنت الاتفاقيات: 270 مليار دولار، سبعة عشر اتفاقية لأرامكو بأكثر من 30 مليار، مشروع HUMAIN مع xAI وNvidia وQualcomm لبناء مركز بيانات بقدرة 500 ميغاواط، وخطة AWS لنشر 150 ألف مسرّع ذكاء اصطناعي في الرياض. مشهد يؤكد أن المملكة تربط الطاقة بالعقل، وأنها تتحرك لتكون مركز الذكاء العالمي القادم.

وفي جلسة مغلقة شرح ولي العهد ملف السودان بدقائق مركّزة، فتحوّل خلال نصف ساعة من موضوع خارج الأجندة الأمريكية إلى أولوية رئاسية. لحظة كشفت وزن الدولة حين يتكلم قائد يعرف خريطة البحر الأحمر، ويفهم حساسية أمنه وتأثيره.

هذه الثماني والأربعون ساعة ليست ذروة حدث… إنها خلاصة مسار طويل.

كيف وصلت المملكة إلى هذه اللحظة؟

منذ الدولة السعودية الثانية تشكّلت طبقة الأساس.
قرن كامل بُني على حكمة الملوك، تماسك المجتمع، ركائز الدين والنفط والأمن، واستقرار عميق منح البلاد شرعية ووزنًا لا يتزعزع. كانت المملكة تمسك مقودها بثقة، وتؤسس جذورًا عميقة كأنها تهيئ نفسها لقفزة أكبر حين يحين الوقت.

وحين جاء عام 2016 انطلقت القفزة.
كلمة ولي العهد «طموحنا عنان السماء» كانت إعلانًا بأن الدولة ستعيد تشغيل نفسها بالكامل. كل الملفات وضعت على الطاولة في وقت واحد: الاقتصاد، التقنية، التعليم، السياحة، الرياضة، الاجتماعيات، الطاقة، الهوية الوطنية، المدن الجديدة، تنويع الدخل. بدأت إعادة هيكلة شاملة، وحوكمة دقيقة، وإصلاحات واسعة. وبدأت حملة مكافحة الفساد التي أعادت الانضباط إلى مركز القرار ونقلت الدولة من إدارة الماضي إلى صناعة المستقبل.

ثم تغيّر الزمن نفسه.
نيوم ترتفع كأنها قادمة من 2050، العلا تستعيد مجدها العميق، البحر الأحمر يتحول إلى وجهة عالمية، الرياض تتشكل كعاصمة مالية وتقنية. شبكات نقل تمتد من البحر إلى الخليج، الربط الخليجي بالقطار يقترب من توحيد الأسواق، ومترو الرياض يتحول إلى شريان حضري لمدينة تتوسع كل يوم.

وفي قلب هذا المشهد تغيّر الإنسان السعودي.
مشاركة المرأة تجاوزت 35%، الشباب يمسكون بمشاريع بمئات المليارات، عشرات الآلاف من الشركات الناشئة تظهر، ورأس المال المغامر الوطني يتوسع بأكثر من عشرة مليارات ريال. جيل يعامل الخطأ درسًا، والمخاطرة فرصة، والتعلم السريع أداة حياة. جيل لا يخاف التجربة، يدخل المشاريع العملاقة بثقة، يتعثر ويعود بقوة أكبر. هذه الروح الجديدة هي التي شكّلت الشخصية الوطنية في عقد التحول.

وتغيّرت الدولة نفسها.
الخدمات انتقلت إلى شاشة الهاتف، البيروقراطية اختفت من الواجهة، والقرارات تنفذ بسرعة التقنية. أصبحت المملكة تُدار بمنطق شركة عالمية دقيقة تستثمر في الزمن كما تستثمر في المال.

ثم جاءت طبقة الذكاء الاصطناعي، الطبقة التي رفعت المملكة إلى مستوى مختلف.
مراكز بيانات بمئات الميغاواط، شراكات مع xAI وNvidia وAWS، نشر Grok على مستوى البلاد، وتحوّل الطاقة والمساحة والبيانات إلى مصدر قوة يصعب منافسته. المملكة لم تعد تواكب سباق التقنية؛ أصبحت جزءًا من هندسته.

كل ذلك بفضل الله أولًا ثم بفضل رؤية واعية استطاعت تحويل الدولة من اقتصاد يعتمد على مورد واحد إلى اقتصاد متعدد المحركات، ومن رد الفعل إلى صناعة الفعل، ومن الاكتفاء إلى كتابة قواعد اللعبة.

ولمن يقرأ هذا التحول بعين الباحث:

اليابان احتاجت عقودًا بعد الحرب لتقف على قدميها.
ماليزيا احتاجت ثلاثين عامًا لصياغة هويتها التنموية.
سنغافورة احتاجت جيلًا كاملًا لبناء نموذجها.

أما المملكة، وبفضل الله، فقد فعلت ذلك في عشر سنوات، وغيّرت معها وجه المنطقة والعالم.

هذه معادلة تُدرَّس:
إرادة سياسية مركزة + رؤية واضحة + انضباط تنفيذي + استثمار في الإنسان + شجاعة قرار = قفزة حضارية.

الإنسان السعودي معين لا ينضب من وعي وطاقة وإصرار.
وولي العهد لخّص المسار كله في جملة أصبحت عنوان مرحلة:
«نريد شرقًا أوسط جديدًا… أوروبا جديدة في قلب الشرق الأوسط.»

من يفهم هذه الجملة يفهم أن المملكة خرجت من زمن الاكتفاء، ودخلت زمن كتابة قواعد اللعبة بوعيها وسرعتها، وبما سيأتي من أعظم وأجمل بإذن الله.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى