جمعان البشيري
في زحمة الحياة اليومية، وبينما نحن منشغلون بتحليل سلوكيات الآخرين، وتوزيع بطاقات النقد المجاني كأننا مراقبون دوليون للأخلاق، لم يخطر في بال أحدنا أن يقف أمام المرآة قليلًا… لا ليرتّب هندامه، بل ليحدّق في ملامح عيوبه كما يحدّق في ملامح غيره.، فأصبح نقد الآخرين أسهل من السلام عليهم؟ بل والسؤال عنهم ..!
ولماذا لا يجد الواحد فينا خطأه، ولو تجسّد أمامه ورفع يده قائلاً: “أنا هنا!”؟
نعم، دعني أقولها بلا تردد: كثيرٌ منا يُتقن فن العتب، لكنه لا يحسن حرفة الحساب الذاتي.
يرفع سبابته على سهو الآخرين، وينسى أن يده مثقوبة من كثرة الأخطاء!
نعاتب الجميع… إلا أنفسنا.! وهذا هو ديدن المعاتبون فكثيرون من الناس يعيشون دور “الضحية الأبدية”،
ويتنقلون بين قروبات التواصل الاجتماعي وخيبات الواقع، وهم يعتقدون أن العالم كله لا يقدّرهم كما ينبغي.
لكن الحقيقة التي لا يحب سماعها معظم الناس هي: ربما العيب… فينا نحن! و ربما أنت حساس أكثر من اللازم، وربما تفسّر كل تأخير على أنه تجاهل، وكل صمت على أنه إهانة، وكل اختلاف في الرأي على أنه خيانة، وربما – وهذه الكارثة الكبرى – عيبك الوحيد أنك لا ترى فيك أي عيب!
ثمّ إننا -بين عتاب وعتب – ننسى أن العلاقات البشرية لا تُدار بـ”زر تحكُّم”، ولا أحد مطالب بالتصرف حسب مزاجك وتوقعاتك دومًا؛ فحين تكتب رسالة العتب الطويلة، أو تقرر أن تعتزل صديقًا لأنك “زعلت”، تذكر فقط أن مزاجك السيئ ليس مسؤولية الآخرين.
لدينا شريحة لا يُستهان بها من الناس تعتبر العتاب وسيلة تواصل يومية؛ بل انه خريّج وبامتياز من مدرسة العتب الجماعي .!
تتأخر عليه؟ زعل، لا تضحك على نكتته؟ زعل. ، تشغلك الحياة عنه؟ عتب مطوّل وانسحاب تكتيكي. لكن ماذا عن مراجعة النفس؟
هل جرّبنا أن نحاسب أنفسنا كما نحاسب غيرنا؟هل فعلاً نحن كما نظن، أم نعيش في فقاعة مزخرفة بـ”أنا دائمًا على حق”؟
أزمتنا اليوم هي المرايا ليست في قلة المرايا، بل في أن مرايانا مظلمة، لا نرى فيها إلا ما نحب، ونطفئ نورها كلما اقترب وجه عيبٍ من أن يظهر.
فابحث عن عيوبك، لا لأنك تسعى للكمال، بل لأنك -ببساطة- إنسان.! إنسان يخطئ كما يخطئ غيره… وربما أكثر.!
اختصر الإمام الشافعي، المسألة كلها في قوله:
إذا كنتَ في كلّ الأمورِ معاتبًا
صديقَك لم تلقَ الذي لا تُعاتبُه
فعِشْ واحدًا أو صِلْ أخاكَ فإنّهُ
مُقارفُ ذنبٍ مرّةً ومجانِبُهُ
وهما من أروع أبيات الشافعي -رحمه الله- تحمل معنى التسامح والتغاضي عن الزلات في الصداقة، لأن الكمال عزيز، ومن طلب صديقًا بلا خطأ فلن يجد أحدًا!
فيا من تُتقن تصيُّد الأخطاء…متى آخر مرة فتّشت فيها عن عيوبك، قبل أن تفتّش في عيوب الناس؟
همزة وصل:
متى أنرت مرآتك المظلمة… لترى نفسك كما يراك الناس؟