المقالاتعام

منابر العلم أم ساحات التناحر؟ أزمة صامتة في جامعاتنا

يفترض بالجامعة أن تكون فضاءً للعقل والحرية والنزاهة، حيث تتلاقى العقول لا لتتناحر، بل لتتنافس في مضمار المعرفة، وتسهم في إنتاج الوعي، وتشكيل الأجيال على قيم الاستنباط والتفكير الحر، لا على التلقين والنقل والحفظ. غير أن الواقع في كثير من الجامعات العربية يعكس مشهدًا آخر، أقل صخبًا لكنه لا يقل خطورة؛ مشهدًا يُدار في الخفاء، تغذّيه مشاعر الحسد والغيرة والانغلاق، لا نتيجة لضعف علمي أو خلل منهجي، بل لأن التميّز ذاته بات يُعد تهديدًا لا يُطاق، لا سيما حين يصدر من خارج الأطر الضيقة أو يرفض الانصياع للصمت المألوف.

تتجلى هذه الأزمة حين تُقصى كفاءات متميزة لا لعجز في إنتاجها أو قصور في عطائها، بل لأنها لم تأتِ من “الحظيرة” ذاتها، أو لأنها تجرأت على التفكير بصوت مرتفع، أو لأن نبوغها يربك التراتب غير المكتوب الذي يسود أحيانًا في أروقة بعض الأقسام العلمية. تُستبدل معايير التقييم الموضوعي بميزان الولاء، ويُقلب مبدأ “من اجتهد تَقدَّم” إلى “من انتمى صعد”، فتُدار المعارك في الظلال لا في المؤتمرات، وتُحسم القرارات في الكواليس لا في لجان التحكيم. وهكذا، تُقصى الحرية ويُكافأ الانغلاق، ويُصاب المجتهد بالإحباط، وتتآكل المساحات التي كان يفترض أن تُخصص للابتكار والاختلاف والإبداع.

تتعمق الأزمة حين تتحول بيئة الجامعة من حاضنة للفكر إلى ساحة تُفرز فيها الصراعات الخفية، وتُخنق فيها الأصوات التي لا تنتمي إلى النسق السائد، ويُنظر إلى كل محاولة للتميّز على أنها خروج على النص، بل وربما خيانة ضمنية لمصالح غير معلنة. ويُضاعف من خطورتها هذا الإنكار شبه الجماعي لها، وكأن الحديث عنها “كفر أكاديمي” أو نوع من التذمر الشخصي، في حين أنها في جوهرها أزمة بنيوية تحتاج إلى وعي يقظ، واعتراف شجاع، وإرادة مؤسسية للإصلاح.

علم النفس يسمّي هذا النمط من السلوك “تهديد الأنا”، حين يشعر الفرد بأن بروز الآخرين يهدد مكانته الذاتية، فيلجأ إلى آليات دفاعية كالإسقاط، والتقليل من شأن الآخر، أو حتى محاربته ضمنيًا. أما علم الاجتماع، فيكشف عن شبكات غير رسمية تتسلل إلى البنية الأكاديمية، تتحكم أحيانًا في مفاصل القرار، وتعيد إنتاج النخبة ذاتها، وتُقصي كل من يحاول شق طريقه خارج النسق. وتزداد حدة هذه الممارسات في التخصصات التي يُفترض أن تكون أكثر انفتاحًا ومرونة، كالتربية، والأدب، والدراسات الإسلامية، حيث تُقنَّع الانفعالات الشخصية برداء المنهجية، وتُدار الصراعات تحت شعارات علمية زائفة، بينما المحرّك الحقيقي لها نفسي واجتماعي بامتياز.

ومع ذلك، فإن الصورة ليست معتمة تمامًا، ولا يجوز التعميم. فما زالت جامعاتنا تحتضن شخصيات أكاديمية رفيعة، تؤمن برسالة العلم، وتنهض بواجبها في التعليم والتربية والتنوير، بروح عالية من المسؤولية الأخلاقية والعلمية. أساتذة يُشجّعون طلابهم على السؤال لا التسليم، وعلى النقد لا التقليد، يغرسون فيهم قيمة الحقيقة لا قيمة التبعية، ويجتهدون في ترسيخ ثقافة تحترم الجهد الفردي وتُعلي من شأن التفكير الحر، بعيدًا عن شبكات الولاء الصغير التي تُحاول اختزال الفضاء الأكاديمي في حسابات ضيقة لا تليق بعظمة المهمة.

هؤلاء الأكاديميون النزهاء هم النور الذي لا يزال يشعّ في زوايا المؤسسة الجامعية، وهم الضمانة أن الجامعة، رغم العثرات، قادرة أن تنهض، وأن تستعيد دورها كمنارة للعقل. أما الفئة الأخرى، وإن كانت محدودة، فإن أثرها عميق، إذ تستبدل الإنصاف بالتحزّب، وتُفرز مناخًا من العداء الصامت، يُحبط الكفاءات، ويمنع تجدد الدماء، ويجعل من المعرفة ساحة لصراعات خفية بدل أن تكون فضاء للتلاقي الخلّاق.

لا يمكن بناء مؤسسة معرفية حقيقية دون قدر عالٍ من الشفافية، والمساءلة الأخلاقية، وحماية للمساحات التي يستحقها التميز والاختلاف والإبداع. إن الجامعة التي لا تحتضن عقولها تخنقها، وإذا لم تُنصف مبدعيها، قتلت الإبداع في مهده. فالعلم لا يزدهر في بيئة يضيق فيها صدر الزميل بنجاح زميله، والعقل لا يُحاصر إلا حين تُمنح الغيرة سلطة المعرفة، ويُصبح النجاح خطرًا يجب محاصرته بدل الاحتفاء به. وحين يصبح العلم رسالة، والمعرفة مسؤولية، والفكر نهجاً، تولد من رحم الجامعات حضارة لا تعرف الأفول. والحق لا يُخشى من النور، ومن يخشاه ليس من أهله.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. لقد عودنا استاذنا الدكتور عايض محمد الزهراني على ابداعاته ونظرته الثاقبة ولكنه هنا قد تجاوز كل المعايير فهذه مقالة تستحق ان تنشر في كل مكان لتصل للجميع … انه تحليل رائع يا دكتور ونظرة ثاقبة فعلا … وقد نجحت بامتياز بعرض المشكلة وبموضوعية وقد اعجبني قلمك الاحترافي حيث كنت حاذقا عندما اردت ان تضمن المقالة بعض الايجابية فركزت على بعض الاكاديميين الممتازين وعلاقتهم بطلابهم وهذه جزئية من المشكلة ولكن المشكلة التي تصديت لها هي فعلا علاقات الاكاديميين فيما بينهم … وهي مشكلة يعرفها الجميع ضمن الاطار المؤسسي في القطاع العام والخاص واحد ابرز اسبابها هو هذا الزيف الذي يلف المجتمع والذي تروج له الهجمة الهمجية على الانسانية من خلال وسائل التفكك الاجتماعي والترويج لما يسمى التميز والابتكار والابداع والريادة فاصبح الجميع يركز على برواز الصورة وهمه الاساسي هو هذا الوهم للشهرة واللهث خلف التصفيق اذ اصبح الجميع يبحث عن كلمة واو …علما بان هذه كلمة لم ترد في قاموس اي لغة بشرية بل هي جزء من لغة الحيوان … معذرة فقد استطردت ولكني اقول بوركت دكتور عايض وبورك قلمك ونتطلع دوما لك مصباح يشع نورا باستمرار

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى