المقالات

صوت من القاعة: عن الندرة، والاستقرار، والقرار المؤجل

ما بين تغريدة الرحيل وواقع الالتزام المالي والمعنوي، يقف ملف بدل الندرة في الجامعات السعودية عند مفترق حساس يتقاطع فيه القانون بالتنظيم، والتخطيط بالواقع. هذه ليست أزمة مالية أو تنظيمية فحسب، بل لحظة صريحة لإعادة تعريف العلاقة بين الأكاديمي ومؤسسته، وبين الكفاءة والتقدير، وبين الاستحقاق والديمومة. بل هي لحظة اختبار حقيقية لقدرة المنظومة على صيانة القيمة المضافة التي يمثلها عضو هيئة التدريس، لا كمورد بشري فحسب، بل كمحرك للابتكار، وصانع للفكر، وشريك في تحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030 نحو اقتصاد معرفي، ومجتمع نابض بالتعليم، وأمة تتفوق بإنسانها.

بدأت سياسة منح بدلات الندرة وغيرها من الحوافز في عهد الملك عبد الله بن عبد العزيز – رحمه الله – كجزء من مشروع وطني شامل لتطوير التعليم العالي، وتحقيق التنافسية العالمية، واستقطاب العقول. وقد شكّلت هذه البدلات مجتمعة — من تعليم، وندرة، وحاسب، وتفرغ، وغيرها — ما نسبته من 40% إلى 110% من الراتب الأساسي، وفقًا للتخصص وطبيعة العمل. لكن عند الحديث عن بدل الندرة وحده، فنحن نتحدث عن نسبة تتراوح بين 20% إلى 40% من الراتب الأساسي، وهي نسبة ليست رمزية كما يُظن، بل تمثل العمود الثاني في بناء الاستقرار المالي.

تخيل أن تُشاع أخبار عن إلغاء هذا البدل فجأة، بلا تمهيد، وبلا توضيح رسمي لمساره، بينما هو يشكّل القاعدة التي بنى عليها عضو هيئة التدريس التزاماته التمويلية، والمهنية، وأحيانًا العائلية.

والمأساة لا تتوقف هنا، بل تمتد إلى واقع بدل التعليم ذاته؛ إذ لا يُصرف إلا بعد رفع بيان الاستحقاق للفصل الدراسي، والذي قد يمتد لثلاثة أشهر كاملة قبل أن يُعتمد ويُصرف فعليًا. وما إن يُصرف، حتى يُقطع مباشرة لأن الفصل يكون قد انتهى، ويُعاد احتساب الاستحقاق من جديد في الفصل التالي، في دورة متكررة ترهق من يعتمد عليه كعنصر أساسي من دخله الشهري. يُعامل عضو هيئة التدريس وكأن ما يقدمه لا يُحتسب إلا بأثر رجعي، لا باعتباره جزءًا ثابتًا من طبيعة عمله وتكليفه المستمر.

هنا لا نتحدث فقط عن خلل إداري، بل عن غياب واضح لتعريف عادل لمعنى “الندرة”، حيث تتحول البدلات من أدوات استقرار إلى مصادر قلق، ويُعامل من يحمل التخصص النادر وكأنه موظف مؤقت يُنتظر تقييمه شهريًا.

هذا هو وجه المأساة الحقيقي.

وفق تعليمات البنك المركزي، يُسمح للموظف الحكومي بنسبة استقطاع تصل إلى 33% للتمويل الشخصي، و65% للتمويل العقاري. آلاف الأكاديميين التزموا بهذه القروض بناءً على الراتب الشامل، لا الأساسي. هذه البدلات، رغم أهميتها، لا تدخل في التقاعد، ما يجعلها حاسمة في تغطية الالتزامات المعيشية.

ثم يأتي الحديث عن الخصم بأثر رجعي، وهو ما يتعارض مع المبادئ القانونية التي أرستها المحكمة الإدارية العليا، خاصة المادة (13) من لائحة الحقوق والمزايا المالية، والتي تؤكد أنه لا يجوز استرداد ما صُرف إلا إذا ثبت غش أو تدليس. أي خصم بناء على مراجعة داخلية أو تأويل إداري يُعد مخالفة للثوابت النظامية، لا مجرد إجراء إداري.

لكن التحدي الحقيقي لا يقف عند المسائل المالية فقط، بل يرتبط ببنية المنظومة وتوجهاتها المستقبلية. إذ لم تُعلن أغلب الجامعات عن وظائف معيدين منذ أكثر من خمس سنوات، ليس بسبب الاكتفاء، بل لأن السلم الجديد المنتظر سيُحيل هذه الوظائف إلى أنظمة التأمينات الاجتماعية، في سياق إعادة هيكلة شاملة تهدف إلى التحول المؤسسي الكامل.

وفي المقابل، يعود المبتعثون من الخارج بأعلى الشهادات والتكاليف، وقد وُعدوا بوظائف وتكاليف مرموقة ضمن برامج رسمية، لكن أعينهم باتت معلّقة خارج المنظومة، يبحثون عن فرص في قطاعات أو كيانات أخرى تمنحهم وضوحًا، واستقرارًا، وبيئة حقيقية لتطبيق ما تعلموه. ليس لأنهم لا يريدون العودة، بل لأن طريق العودة لم يعد واضحًا كما وُعِد.

هذا الانقطاع بين ما يُخطط له وما يُنفذ، وما يُوعد به وما يُتاح، هو أحد أبرز مواطن القلق التي تُربك الأكاديمي العائد وتدفعه ليبني مستقبله بعيدًا عن المؤسسة التي ابتعثته.

في المقابل، عاد عدد كبير من المبتعثين بشهاداتهم العليا وكلهم طموح لنقل المعرفة والمساهمة في النهضة العلمية، لكنهم اصطدموا بواقع مادي صعب؛ حيث تبدأ حياتهم العملية من الصفر، وعليهم بناء أنفسهم ماليًا، تأثيث منازلهم، شراء سيارة، والبحث عن سكن جامعي لا يتوفر غالبًا إلا بعد انتظار طويل أو لا يتوفر أصلًا. كل ذلك يحدث دون مسار وظيفي واضح داخل الجامعة.

وهنا تبدأ رحلة البحث عن بدائل خارج أسوار المؤسسة التي ابتعثتهم، ليس لأنهم تخلوا عن رسالتهم، بل لأن الطريق الذي وُعِدوا به لم يُمهد، ولأن الرسالة لا يمكن أن تُؤدى فوق أرض غير مستقرة..

تضارب الممارسات الإدارية بين الجامعات — في تفسير الأنظمة، وصرف البدلات، واللوائح المرتبكة — ولّد شعورًا بعدم العدالة، وأفقد كثيرًا من الأكاديميين ثقتهم في استقرار بيئة العمل. فهل نلوم من يبحث عن بديل أكثر وضوحًا؟

التخصصات العلمية والتقنية والطبية لم تعد وحدها المعنية، فالمشهد يطال كل من جعل من القاعة الأكاديمية ساحة عطاء، وبنى عليها حياته المهنية. والمشكلة لم تعد في التخصصات النادرة فحسب، بل في غياب تعريف منصف للندرة.

الندرة لا تعني فقط قلة العدد. لطالما ارتبطت بتخصصات ذات نسب سعودة منخفضة داخل الأقسام أو مقارنة بغيرها، أو تلك التي تعاني من ضعف في التمثيل بسوق العمل. لكن حتى هذا التعريف لم يعد صالحًا اليوم. ففي كثير من الأقسام، ارتفعت نسبة السعودة، دون أن ينعكس ذلك على البيئة النظامية أو الحوافز أو وضوح المسار. بل إن غالبية التخصصات — رغم ارتفاع تمثيل السعوديين فيها — لا تجد امتدادًا طبيعيًا داخل مشاريع الرؤية أو فرصها النوعية، مما يكشف أن الندرة لم تعد إحصائية، بل باتت واقعية. الندرة أصبحت في التمكين، في المعاملة، في المعنى. ولهذا لم تعد تُقاس بلغة الجداول، بل تُستشعر في موقع الكفاءة من القرار، وفي قدر ما يُستثمر فيها ضمن التحول الوطني الشامل..

الندرة الحقيقية هي من يبقى رغم الضبابية، ويكمل رغم فقدان الحوافز، ويؤمن بأن التعليم رسالة، حتى وإن تآكل التقدير. من يُدرّس، ويُشرف، ويكتب، ويُمتحن، وكل ما حوله يُدار بمنطق المراجعة والانتظار.

اليوم، لا نطالب بإعادة النظر في البدل كرقم، بل في أثره كمعنى. فحين يُصاغ سلم رواتب جديد، نحتاج أن نعرف: هل سيُراعي العدالة بين الجامعات؟ هل سيعوض غياب الحوافز التقاعدية؟ هل سيحفظ من تبقى؟

ذلك هو صوت من القاعة؛ لا يعلو، لكنه لا يغيب. صوت لم يكتب بيانًا، ولم يطلب منصة، لكنه ظل حاضرًا في تفاصيل اليوم الأكاديمي، في تحضيره، وشرحه، وإشرافه، وصمته حين لا يجد جوابًا.

هو الصوت الذي اختار أن يبقى دون ضجيج، أن يُكمل دون وضوح، وأن يؤدي رسالته ولو على حافة الترقب. لا يُلزم أحدًا، لكنه يُلهم من أراد أن يفهم.

ذلك هو *صوت من القاعة: عن الندرة، والاستقرار، والقرار المؤجل.*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى