المقالاتعام

لكي لا نبدأ من جديد… بعد كل مرة ظننا أننا بدأنا

في زمن تتسارع فيه الخطى نحو التغيير المؤسسي، لفت نظري مقال للدكتور حسام زمان بعنوان “عن الأشياء التي تبدأ مرتين: الإبداع بين التوهّم والتزييف”، وقد تلمست فيه تشخيصًا دقيقًا ومؤلمًا لحال كثير من المبادرات والمشاريع التي تُطلق بلا ذاكرة مؤسسية، وتُدار بلا أدوات قياس، ثم تُعاد من جديد تحت عناوين مختلفة، وكأنها لم تُجرّب من قبل.
ذلك المقال – بعمقه وصدقه – لم يكن حكرًا على مؤسسة تعليمية بعينها، بل ينطبق على واقع مؤسسات شتى، في التعليم والصناعة والخدمات والتنمية، حيث تختلط النوايا الطيبة بالتنفيذ المرتبك، ويضيع أثر العمل تحت ضغط الاستعراض، ويتكرر المشهد ذاته، لكن بأسماء جديدة.

في كل منشأة طموحة، يتكوّن الحلم في صمت، ويُسقى بالأمل، ويُنتظر أن يثمر أثرًا حقيقيًّا يتجاوز الأشخاص إلى الأجيال. غير أن هذا الحلم النبيل سرعان ما يضيع إذا تولّاه من لا يفرّق بين الرؤية المستدامة والانفعال العابر، بين من يزرع ليحصد الوطن، ومن يزرع ليُصفق له الناس.

حين تغيب الحوكمة، ويتعطل الميزان، تُترك المؤسسات عرضة لأمزجة الأفراد، وتصبح القرارات رهينة لما يُرى على السطح لا لما يجري في العمق. ويعلو صوت الإنجاز اللحظي، لا لأنه الأفضل، بل لأنه الأسرع في الظهور. وهكذا تتحول بعض الكيانات إلى مسارح مشغولة بالمؤثرات البصرية، لا مصانع منتجة للأثر الفعلي.

الفرق شاسع بين من يعتقد أن وظيفته أن يُنجز، ومن يدرك أن مسؤوليته أن يبني. القائد الحقيقي لا يلهث خلف الاحتفالات، بل يبحث عن مؤشرات حقيقية تقيس ما تحقق، وتكشف ما تعثّر، وتُعين على التوجيه والتصحيح. أما من لا يرى من النجاح سوى صورته في منتصف التقرير، فهو أبعد ما يكون عن جوهر المسؤولية.

في بلادٍ كالسعودية، تعلّمنا من ملوكها أن الزرع ليس مشروعًا شخصيًّا، بل عهدٌ للأجيال. منذ عهد المؤسس وحتى هذا العهد الزاهر، لم تكن المشاريع الكبرى تُبنى لتحقق مجدًا فرديًّا، بل لتثمر بعد سنوات، ويحصدها أبناء الوطن وأحفاده. إنها ثقافة متأصلة في عقلية من يعمل من أجل غدٍ أجمل: أن تغرس ولا تنتظر أن تجني أنت.

لكن الخلل يبدأ حين يظن بعض المسؤولين أن المنصب مناسبة للحصاد الفوري، وأن كل خطوة يجب أن تُؤتي أُكُلها في دورة واحدة. حينها تتداخل المصالح، ويختلط الخاص بالعام، وتصبح النتيجة المرجوة ليست تحسين الأداء بل إثبات الإنجاز بأي وسيلة. وهنا تُختصر الرؤية إلى لحظة، وتُختزل المؤسسة إلى منصة، ويضيع الغرس الحقيقي تحت ضغط التوثيق والإعجاب اللحظي.

إن لم نتفق على المعايير، فلا جدوى من المقارنة. فاختلاف أدوات القياس يُلغي معنى القياس ذاته، ويفتح الباب لتأويلاتٍ لا نهائية، تقود المؤسسات إلى وهم التفوق لا إلى حقيقته. لا يمكن أن نطلب مساءلة عادلة بينما تختلف المقاييس من قسم إلى قسم، ومن إدارة إلى أخرى، وتتعدد الروايات حول نفس الإنجاز دون مرجعية واحدة للفهم والحكم. نحن بحاجة إلى قراءة مشتركة للمعايير، لا إلى تفاخر فردي بتأويلها.

والمشكلة ليست في أن نحلم، بل في أن نخلط بين الحلم والإنجاز، وأن نمنح نفس المكافأة لمن يقود الفكرة، ومن يُتقن تنفيذها، ومن يكتفي بالظهور إلى جانبها. حين تُدار المنشآت بهذه الطريقة، تصبح مقبرة للطاقات الصادقة، وبيئة طاردة للعقول التي ترفض العشوائية وتطلب المعايير. أما حين يُقاس النجاح بالانطباع لا بالمؤشرات، يصبح المشهد ضبابيًا، ويضيع الحدّ بين الاجتهاد والتجميل.

المنجز لا يُقاس بالنوايا، بل بالمخرجات. ولا تُدار المؤسسات بالرغبة فقط، بل بالمؤشرات والحوكمة والتقييم المستقل. نحن بحاجة إلى ميزان موحّد، صادق، يجرؤ على أن يقول: هذا منجز يستحق أن يُبنى عليه، وذاك تكرار لا يضيف شيئًا. دون هذا الميزان، ستبقى المؤسسات تسير بلا بوصلة، وتعيد أخطاءها بأسماء جديدة.

نكتب لا لنُجَرّح، بل لنوقظ. ننتقد لا لنُشهّر، بل لنقترح. لأن التنمية ليست ساحة للتجريب العشوائي، بل مشروع مستقبلي مشترك. والحوكمة فيه ليست عائقًا، بل حارسًا للرؤية، وراعيًا للعدالة. فليُترك الحلم لأهله، وليُرفع عن الإدارة سيف الهواة، *حتى لا نضطر أن نبدأ من جديد… بعد كل مرة ظننا أننا بدأنا.*

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى