المقالات

القلوب النقيّة لا تخسر

في خضمّ هذا العالم المزدحم بالصخب، المُثقل بالخذلان، والمُعلّق على خيوط العلاقات الواهنة ، ينسى الإنسان أحيانًا أن أعظم ما يملكه ليس ما تراكم في يديه، ولا ما اقتنصه من مجدٍ عابر، بل هو في تلك الكتلة الدافئة التي تتخذ شكل الحب وتخفق بنبض الحياة ، إنه قلبه؛ هذا الكيان الذي لا يُرى، لكن حضوره يملأ الحياة.إنه المرسى حين تعصف بنا الأقدار ، والنورُ الذي لا يخبو حين تتكاثرُ الظلال. والكنز الذي إن ظلّ نظيفًا، ظلّت الحياة رغم قسوتها جديرة بالعيش…وليس ضعفا -أيها السادة -أن يكون هذا القلب نقيًا وسط عالمٍ مُحمّلٍ بالغبار ، بل هو شجاعة نادرة. ليس عيبا أن تمشي بقلب أبيض وسط دروبٍ مليئة بالخذلان، أن تبتسم لمن جرحك، وتصمت في وجه من ظنّك ساذجًا، أن تغفر لا لأنهم يستحقون، بل لأنك أسمى من أن تُشبههم… تلك بطولة لا يتقنها إلا أصحاب الأرواح الكبيرة. إن النقاء – يا سادة – لا يعني الغفلة، بل علوًّا. لا يعني العجز، بل امتناعًا عن السقوط . أن تحيا بقلب نظيف يعني أن تختار الصفاء رغم العتمة، وأن تصون إنسانيتك في زمنٍ تنكّر فيه الإنسان لأخيه الإنسان ، وكم هو جميل أن تظلّ نقي السريرة، رغم القلوب التي اسودّت من الغل،رغم العيون التي لا تُبصر إلا بالظن ، رغم من خذلك ثم عاد يُنازعك الطمأنينة…القلب النظيف – يا كرام – لا يُخزّن الانتقام، ولا يعيد مشاهد الألم، ولا يحمل للآخر حساباتٍ مؤجّلة . إنه يُسامح، لا لأنه نسي، بل لأنه تجاوز. يغفر، لا لأنه لا يشعر، بل لأنه لا يريد أن يحمل أعباءً تُثقل طريقه ، فالنقاء ليس نسيانًا، بل حكمة. ليس ضعفًا، بل قوّة تُختار بوعي.
‏وقد يُخدع هذا القلب ، وقد يُستغلّ في بعض الأحيان. لكنه لا يخسر أبدًا ؛ لأن الخسارة الحقيقية ليست في فقد الأشخاص، ولا في تفكك العلاقات، بل حين يتحوّل القلب إلى حجر، حين يفقد نبضه الدافئ ، حين لا يعود قادرًا على أن يحبّ دون شروط، أو يعطي دون مقابل. أما القلب النظيف، فكل خيبة تمرّ عليه تصقله، كل جرح يُعلّمه كيف يظلّ رقيقًا دون أن يُكسر.إنه لا يعرف الأحقاد، ولا يحتفظ بما يعكر صفوه. هو قلب يمنح لأنه لا يعرف كيف يُمسك، ويعفو لأنه يدرك أن الأيام قصيرة، وأن الغضب عبء لا يُجدي، بل يُنهك الروح ويطفئ ضوءها.
‏القلب النظيف لا يبقى كذلك من تلقاء نفسه، بل هو عملٌ يوميّ، وصراعٌ داخليّ، وطقوس من التطهير الذاتي. فكما تتسخ المرايا من أنفاس العابرين، يتسخ القلب من هواجس الحياة، من الكلمات الجارحة، من المشاهد القاسية. لذا، اغسل قلبك كل ليلة. لا بالماء، بل بالتأمل. لا بالأنين، بل بالغفران. لا لأجلهم، بل لأجلك. امسح عن روحك آثارهم، لا لتحقد، بل لتتحرر . إن فعلتها فستأتيك الأيام بما لا يخطر على بالك وستُدهشك بما لا تتوقعه ، ليس لأنك لم تتألم، بل لأنك ظللت أمينًا لقلبك وسط الألم . يراك الله
‏حاملا قلبا لم يتلوّث، فيُرسل إليك أشخاصًا يشبهونك، ومواقف تُعيد إليك يقينك بأن النقاء لا يُضيّع. فتُباغتك النعم من حيث لا تدري، وتأتِي البشائر من أبوابٍ لم تتوقعها ، لأن العدالة الإلهية لا تُهمل القلوب التي ظلّت نقية بل ترفعها .

‏• جامعة أم القرى

أ.د. حسن القرني

أستاذ النحو والصرف بجامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى