في حضن مكة المكرمة، حيث تتعانق الروح مع السماء وتنبض الأرض بنور الوحي، تقف جامعةُ أم القرى شامخةً كمنارة علمٍ تهدي السائرين في دروب المعرفة. ومن بين جدرانها لا تسمع فقط صدى لهجات أبناء الوطن، بل تُنصت أيضًا إلى أنغام لغات ولهجات بعيدة، جاءت من أطراف الأرض، تحملها أفئدةٌ شغوفة، وعيونٌ حالمة، وأرواحٌ مغتربة تستضيء بنور العلم والإيمان.
الطلبة المغتربون في جامعة أم القرى ليسوا مجرد أسماء تُسجَّل في القوائم، أو وجوه تمرُّ في أروقة الجامعة. إنهم قلوب نابضة بالحلم، حملت أوطانها في حقائب السفر، وودّعت أهلها على أرصفة المطارات، وجاءت تطلب العلم في مهبط الوحي، حيث تنزل جبريلُ عليه السلام، وحيث سار الحبيبُ المصطفى صلى الله عليه وسلم .يغتربون لا لأنهم غرباء عن القيم، بل لأنهم ضيوف على وطنٍ يحتضنهم كأنهم من أهله. يدرسون الشريعة واللغة، وعلوما أخرى وهم في كل ذلك لا يطلبون سوى أن يُحسنوا، أن ينهلوا من معينٍ لا ينضب، وأن يعودوا إلى بلادهم كالسحاب، أينما مرّ أروى وكالمطر أينما وقع نفع . تتعدد جنسياتهم، وتختلف ألسنتهم، لكنهم جميعًا يشتركون في العطش إلى المعرفة، وفي الشوق إلى الوطن، وفي الحنين إلى رائحة البيت الأولى. يأتون من شتى بقاع الأرض ، بعضهم يأتي من أفريقيا السمراء، يحمل في ملامحه وجعًا وأملًا، وبعضهم من شرق آسيا، بخطى واثقةٍ وعيونٍ متقدة. ،يجيئون كأنهم على موعدٍ مع قداسةِ المكان، ليكونوا جزءًا من قصة طويلة، بدأت من غار حراء ولم تنتهِ.
جامعة أم القرى، ببركتها العلمية ومكانتها الروحية، تمنحهم أكثر من مجرد تعليم. إنها تمنحهم انتماءً، دفئًا، وهوية جديدة تنسجها الأيام بين دفات المقررات ومجالس العلماء. هناك، في حلقات الدرس، يلتقون من لم يكونوا يعرفونهم، فيكتشفون أن الأخوة ليست في الدم فقط، بل في العقل الذي يشتاق للحق، وفي القلب الذي يأنس بالمشترك.
لكن للاغتراب ضريبته فكم من دمعةٍ انسكبت لذكرى أمٍّ بعيدة ! وكم من ليلة باردة قضوها في صمت الغربة ! ومع ذلك، فإن في صدورهم شعلة لا تخبو، وإيمانًا بأن ما يبذلونه من جهد ليس إلا تمهيدًا لرسالة يحملونها غدًا إلى بلادهم، حيث يكونون سفراء للعلم، وللحق، وللمحبة.
أيّها المغتربون في أم القرى، يا من اخترتم مكة الطاهرةَ موطنًا مؤقتًا للعلم، اعلموا أنكم وإن ابتعدتم عن أهلكم، فقد اقتربتم من قلوبنا، وأنتم وإن فارقتم أوطانكم، فإنكم تعمرون وطناً واسعًا اسمه “المعرفة” ، فكونوا كما أنتم، طلابًا للحكمة في أرض الرسالة، عيونًا ترى المستقبل من بوابة التاريخ، وقلوبًا تعشق الحرف النبيل، وتزهر في ظل أرض النبوة .
أ.د/ حسن القرني – جامعة أم القرى

1
رعاك الله دكتور حسن ، فأنت منارة للعلم والأدب .