مدرجات الزراعة… إرث خالد
في الباحة، لا تُحرث الأرض فقط… بل تُروى بالذاكرة، ويُزرع فيها العطاء كما تُزرع القصائد.
الزراعة هنا ليست مجرّد نشاط اقتصادي، بل حالة وجدانية حيّة تعبّر عن علاقة الإنسان بجغرافيته، وعن قدرة الروح على ترويض الجبل وتحويله إلى جنّة من خُضرة وثمار.
على سفوح جبال السروات، تمتد المدرجات الزراعية كأنها سلّم من نور أخضر، صعد عليه الأجداد ليكسروا قسوة التضاريس، ويُبدعوا لوحة من الانسجام بين الطبيعة والعمل.
هذه المدرجات، التي ما زالت تحتفظ ببهائها رغم القرون، تُعد من أقدم النماذج الزراعية المستدامة في الجزيرة العربية، وتُظهر الدلائل الأثرية والجيولوجية أنها تعود إلى ما قبل الإسلام، خاصة في قرى مثل بيدة والظفير وآل موسى، حيث لا تزال آثار القنوات الحجرية وأساليب الري التقليدي ماثلة للعيان.
ويزيد المشهد سحرًا عندما تُلقي الضبابات الصباحية بوشاحها الأبيض على الحقول، فتبدو التلال كأنها تحلم، وتتنفس المدرجات من رئة الغيم.
في هذه اللحظات، يكون العمل في المزرعة طقسًا من طقوس التأمل، حيث السحاب يُظلّل الجبال، ويبارك الأرض التي تعطي دون تكلّف.
ويُعتبر رمان بيدة تاج هذه الأرض، بطعمه المتوازن بين الحلاوة والحموضة، وبتكوينه الفريد الذي جعله مطلوبًا في الأسواق الخليجية والعربية.
وتجاوره محاصيل العنب والمشمش والتين واللوز والقمح والشعير، التي تنضج على وقع المطر، وتتغذى من ضوءٍ مرشّحٍ بين غلالة الضباب.
أما العسل الجبلي، فهو قصة أخرى من قصائد الطبيعة.
من أودية مثل وادي العقيق، ووادي فيق، وتربة بزهران، تُجمع خلايا النحل التي تتغذى على أزهار السدر والطلح، بعد أن يغسلها الغيم كل فجر، فينتج عسلًا جبليًا خالصًا، يُهدى لضيوف الملوك، ويُستشفى به من يقدّر نفائس الجبل.
وقد ورد في كتب المؤرخين كالأزرقي والبلاذري وابن فهد أن الباحة كانت تُرسل بعسلها ومحاصيلها إلى مكة، وتُنعش أسواقها الكبرى في مواسم الحج، مما يبرز أهمية المنطقة اقتصاديًا وثقافيًا منذ قرون.
وفي قلب هذه المنظومة الزراعية، تنتشر مزارع عريقة مثل الخازن والجسر وعقيق النخيلة. ليست فقط مشاريع إنتاجية، بل مجتمعات مصغّرة يعيش فيها الفلاحون بروح تعاونية، يتقاسمون العمل والماء والفرح، ويحتفلون بالمواسم كأنها أعياد الروح.
الزراعة هنا تُمارَس كأنها تسبيحة يومية.
أدواتها بسيطة: فأس، مجرفة، ويدٌ تعرف كيف تُنبت الحياة في جوف السحاب.
وفي صباحات الباحة، حين يُغلف الضباب المدرجات كأنها لفائف بخور معلّقة بين السماء والأرض، يعرف الفلاح أن البركة نازلة، وأن الرزق آتٍ من جهة الغيم.
يقول المثل الباحوي:
“من حرث ورفث، حصد وفرح”،
لأن في الباحة، الجهد لا يُرهق، بل يُبهج، واليد التي تزرع، تسبقها نية طاهرة ورضى داخلي.
فمن أراد أن يعرف كيف تصير الأرضُ صلاة، والزرعُ ترنيمة، والموسمُ عيدًا،
فلينزل إلى قلب الباحة، حيث يُروى الجمال بصبر الإنسان، وتُكتب القصائد لا على الورق، بل على سطورٍ من ترابٍ وضوءٍ وضباب.
في الباحة،
الأرضُ ليست مجرد مساحة… بل أمٌّ تُرضِعُ أبناءها من غيمتها،
والزرع ليس طعامًا… بل لغةٌ تُنطَق بالخُضرة،
أما الإنسان…
فهو غصن لا يميل إلا توقيرًا للمطر،
ولا ينحني إلا ليغرس الأمل في حضن الحقول


