في الباحة، لا يُحتفى بالحياة بالهمس، بل بالرقص… ولا تُقال القصيدة على الورق، بل تُحفر بخطى الراقصين على أرضٍ تهتز فرحًا، وتُردد على نغمة الزير، وتُختم بالسيوف العالية كأنها توقيع المجد في صفحة الزمان.
هنا، في قلب الجبال، وفي حناجر الفرح الجبلي، تُؤدى العرضة الجنوبية لا كفنٍّ استعراضي، بل كطقسٍ قومي تُشارك فيه الجبال عزف الأهازيج، ويُشعل فيه الصوت الحيّ ذاكرة المكان.
الزير يتوسّط الدائرة، الطبول تهدر، والسيوف تُصقل الهواء بوميضها، فيما القصائد تتهجى أسماء الفرسان، وتستدعي الندى من كتب الأجداد.
وقد قالها الشاعر الجنوبي وصفًا لهذا المشهد الذي لا يُنسى:
هذي الجبالُ إذا رقصنَ تهاطلَتْ
أشعارُنا مِن ضوءِ وجه
السارية
وليس الغناء وحده ما يملأ الروح، بل التنوع المذهل في الفنون كـ”اللعب الجنوبي” و”الخطوة” و”المسحباني”، وهي ليست ألوانًا فولكلوريةً وحسب، بل شيفرات تُخاطب العمق، وترسم للانتماء خارطةً تُنقش في الجسد والعين.
وفي المجالس الجبلية، حيث يُروى الزمان، تنبع الحكايات من شفاه الأجداد كما تنبع المياه من ينابيع وادي فيق أو العقيق.
الأمثال تُتداول كتعاليم يومية، مثل:
“الوجه البشوش يغنيك عن ألف هدية”
و**“من عرف الكرم،
سكن في بيت النور”**،
وفيها إشارة إلى كرم أهل الباحة المعروف، الذين يفتحون قلوبهم
قبل بيوتهم،
ويكرمون الضيف
كأنه من صلب البيت.
وتنعكس هذه الروح أيضًا في الأزياء التقليدية التي ما زال رجال غامد وزهران يلبسونها بفخر، وتتلألأ فيها الخناجر الفضيّة والزنانير المطرزة، فيما تتحلى النساء بحُليّ من الفضة القديمة والمصاغ اليدوي، وكأنهن صفحات من كتاب تراث حيّ.
أما التراث المعماري،
فهو فصل من صلابة الجبل نفسه.
في الضفير والخليف ودوس وحوالة وذي عين، تقف بيوت الحجر متماسكة كأنها امتداد لطبيعة الأرض، بأسقف من جذوع العرعر وسعف النخيل، وبممراتٍ ضيّقة تحفظ الدفء وتروي الأسرار.
قلعة بخروش بن علاس، المقاوم الذي واجه الحملات العثمانية، لا تزال تروي قصة ثائرٍ نحت التاريخ بالسيف والكلمة.
وقصر برقوش، بما فيه من تفاصيل الطراز الحجازي الجبلي، شاهدٌ على تمازج الجمال والفخر.
وقد وصفها جون فيلبي حين زارها عام 1936 بأنها:
“قرى تتنفس الحنين، وتتزين بأصابع الطبيعة، وكأنها كُتبت بلغةٍ لا تُمحى.”
أما سوق السبت ببلجرشي، فليس فقط مكانًا للتبادل، بل متحف مفتوح، حيث تُعرض الحِرَف اليدوية من نحت الأخشاب، وحياكة السلال، وصناعة الدلال، والمباخر، والقِرَب، وكأن الجدّات ما زلن ينسجن حكاياتهن بخيوطٍ من سعف ونار.
الباحة لا تكتفي بأن تُغني… بل تُشبه سيمفونية أرضية، تتقاطع فيها الألوان، وتتمازج فيها الإيقاعات، وتُحفظ فيها الهوية بالأداء لا بالتلقين.
هي الجبل حين يغنّي، والإنسان حين يتجذّر، والحجارة حين تتحول إلى نشيد.
وفي كل رقصة، توقيع على الولاء.
وفي كل حجر، بصمةٌ من صمود.
وفي كل ضحكة طفلٍ في ساحة تراثية، وعدٌ أن يبقى الوطن كما عرفناه:
صادقًا كأهله، عاليًا كقممه، حيًا كأنغام باحته


