في خطوة نوعية تعكس التزام المملكة العربية السعودية بحقوق الإنسان وحرصها على أمن وسلامة الأجيال القادمة، اعتمد مجلس حقوق الإنسان قرارًا جديدًا يُعزّز مبادرة المملكة الرائدة لحماية الأطفال في الفضاء السيبراني، وذلك انطلاقًا من المبادرة العالمية التي أطلقها سيدي صاحب السمو الملكي الأمير محمد بن سلمان، ولي العهد رئيس مجلس الوزراء – حفظه الله – تحت عنوان: “حماية الطفل في الفضاء السيبراني”.
وقد طرحت بعثة المملكة لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف مشروع القرار بهدف تعزيز أهداف هذه المبادرة الهامة على المستوى الدولي. ويُترجم القرار التزام المملكة بتحقيق خطوات عملية لحماية الأطفال في الفضاء الرقمي من خلال التعاون الفني وبناء القدرات، بما يتناسب مع احتياجات وأولويات كل دولة.
وجاء القرار بدعم مشترك من عدة دول صديقة، هي: الكويت، الجزائر، باكستان، أذربيجان، وفيتنام، مما يعكس الزخم الدولي الذي تحظى به المبادرة السعودية، ويؤكد أهمية التكامل والتعاون الدولي في التصدي للتحديات المتزايدة التي يفرضها الفضاء الرقمي على فئة الأطفال.
ويُبرز القرار المقدم من المملكة في دورته الـ59 لمجلس حقوق الإنسان في جنيف – عبر المندوب الدائم للمملكة لدى الأمم المتحدة والمنظمات الدولية في جنيف، السفير عبدالمحسن بن خثيلة – تبني المجتمع الدولي لأبعاد هذه المبادرة، حيث اعتمد القرار بالإجماع، وهو ما يُعد إنجازًا دبلوماسيًا يُضاف إلى سجل المملكة في المحافل الدولية.
في ظل اتساع الفضاء الرقمي وانتشار التكنولوجيا في حياة الأطفال حول العالم، تتزايد التهديدات الإلكترونية التي تستهدف هذه الفئة الضعيفة، ومنها الاستغلال الجنسي، والتحرش الإلكتروني، والاستدراج، وانتهاك الخصوصية. وتشير تقارير دولية حديثة إلى تنامٍ مقلق في حجم الجرائم الإلكترونية الموجهة ضد الأطفال، خاصة عبر تطبيقات التواصل الاجتماعي والألعاب الرقمية والمنصات المفتوحة، ما يجعل المبادرات التي تُعزز الحماية الرقمية للأطفال أولوية قصوى على جدول أعمال المنظمات الدولية والدول الأعضاء.
وتُعد هذه التحديات أكثر حدة في الدول النامية، حيث تفتقر العديد من المجتمعات إلى البنى التحتية التقنية، والأطر القانونية، والموارد البشرية المؤهلة لمراقبة المحتوى الرقمي وتطبيق معايير الحماية. من هنا، تكتسب المبادرة السعودية بُعدًا عالميًا ذا طابع شمولي، حيث لا تقتصر على نطاقها المحلي أو الإقليمي، بل تمتد إلى دعم الدول الأضعف في هذا المجال من خلال التعاون الفني وتبادل الخبرات، ما يُكرّس مفهوم العدالة الرقمية بوصفه جزءًا لا يتجزأ من حقوق الإنسان الحديثة.
وتتضمن مضامين القرار عددًا من المرتكزات المهمة التي تعكس روح المبادرة السعودية، حيث تؤكد على أهمية تبادل الخبرات وأفضل الممارسات بين الدول لتعزيز القدرات الوطنية في حماية الأطفال على الإنترنت، بما يتيح لكل دولة تطوير آلياتها وفقًا لظروفها واحتياجاتها الخاصة. كما يشدد القرار على ضرورة تقديم الدعم الفني الملائم، وتعزيز قدرة المجتمعات على مواجهة التحديات الرقمية المتزايدة، مع إبراز حرص المملكة على تعزيز التعاون الدولي لضمان فضاء رقمي آمن وصحي للأطفال. وتمضي المبادرة كذلك نحو المساهمة في بناء قدرات وطنية مستدامة، تُسهم في حماية النشء وتأهيلهم لاستخدام آمن ومثمر للفضاء السيبراني، في إطار متكامل يدمج بين التمكين التقني والوعي الحقوقي.
يُمثل اعتماد مجلس حقوق الإنسان لمبادرة المملكة لحماية الأطفال في الفضاء السيبراني مؤشرًا واضحًا على التحول الذي تقوده السعودية في مفهوم حقوق الإنسان الرقمي، خاصة في ظل التحديات المتزايدة التي تواجه الأطفال في العالم الافتراضي. فالمبادرة لا تُعد فقط عملاً وقائيًا لحماية فئة ضعيفة، بل تُجسّد أيضًا منظورًا استباقيًا يدمج التقنية مع الحقوق الإنسانية في إطار من الشمولية والاستدامة.
من الناحية السياسية والدبلوماسية، فإن اعتماد القرار بالإجماع يُظهر نجاح المملكة في كسب التأييد الدولي لقضاياها الحقوقية، بما يعزز حضورها الفاعل في المحافل متعددة الأطراف، ويعكس قدرتها على تحويل المبادرات الوطنية إلى أدوات تأثير دولية. ويبرز هنا دور الدبلوماسية السعودية، لا سيما في جنيف، حيث تتبلور السياسات الأممية المتعلقة بحقوق الإنسان، ويظهر كيف استطاعت المملكة عبر هذه المبادرة أن توظف أدوات القانون الدولي والتعاون متعدد الأطراف لخدمة هدف إنساني جامع.
كما تُعد المبادرة نموذجًا لما يمكن تسميته بـ”الريادة الأخلاقية الرقمية”، حيث تمضي المملكة قُدمًا في صياغة قواعد جديدة للأمن السيبراني ترتكز على حماية الفئات المستضعفة، وليس فقط على البعد الأمني التقليدي. ومن خلال دمج عنصر بناء القدرات والدعم الفني للدول النامية، فإن السعودية تُقدّم نفسها كفاعل دولي يوازن بين المسؤولية والسيادة، وبين الأمن والعدالة الرقمية.
وفي ظل النمو المتسارع لاستخدام الإنترنت وتطبيقات الذكاء الاصطناعي، تزداد الحاجة إلى مبادرات دولية تُعيد تعريف الفضاء الرقمي كمساحة تحترم الطفولة وتحميها من الاستغلال والمخاطر. وهنا تبرز مبادرة سيدي ولي العهد الأمير محمد بن سلمان كوثيقة توجه عالمية تُلزم الجميع بمسؤولية جماعية تجاه الأطفال، وتُعيد الاعتبار لمفاهيم الحماية والرعاية في عالمٍ أصبح فيه التهديد لا يأتي من السلاح، بل من شيفرات خفية خلف الشاشات.
إن هذا التحرك السعودي يُشكل، بامتياز، بوصلة أخلاقية وقانونية في عالم رقمي مضطرب، ويعكس بُعدًا استراتيجيًا في سياسة المملكة الخارجية، حيث تُعيد تعريف القوة الناعمة على أسس أخلاقية وتنموية، بما ينسجم مع طموحات رؤية المملكة 2030، ويعزز مكانة السعودية كركيزة توازن في العالم المعاصر، ليس فقط سياسيًا أو اقتصاديًا، بل تقنيًا وإنسانيًا أيضًا.
حفظ الله المملكة وقادتها وشعبها، وأدام عزها ومجدها ووحدتها، وجعلها ذخراً للإسلام والمسلمين.





