الثقافية

البلداني والمؤرخ الشهير تركي إبن خريم “الثابت لا يتحول”

الثابت لايتحول

البنية الثقافية هي المظلة الجامعة التي تتأطر من خلالها المرجعية التي يركن إليها في تحديد القصد لكل مفهوم ودلالة وسياق يفرق فيه بين البصر والبصيرة والمبصر “voyeur”، أي بصر مع التخفي وهو حقيقة نظر وبصر، ولكنه بصر لا يحتج به لعدم شرعيته ولا يؤتمن التزيد به، واختلال ثباته لما يعتريه من الخوف.

وقريب من هذا ألمح د. محمد سويرتي بتساؤله: “وهل يحق لنا أن نقفو بما ليس لنا به علم فنقول بأن الفلاسفة والمفكرين والباحثين في الشرق والغرب قد اكتفوا بالنظر في مناح ضيقه” وبؤرة النص (اكتفوا بالنظر في مناح ضيقه) وهذا ما وقع فيه حذو القذة بالقذة من أسموا أنفسهم أنهم أهل تنظير وتأطير في فهم التراث وآثاره بنقوشه وموجوداته بالتاريخ والشعر ، وليتهم اكتفوا بذلك فقد تعدوا على تأويل الكتاب والسنة وأقوال السلف وأهل الاحتجاج من الخلف فلا ظهراً أبقوا ولا أرضاً قطعوا، ويظهر جليًا لمن يدرس ويحاول الإحاطة بما كُتب أن الأسوار مقتحمة وكل مقتحم يقول: حصلت على شحمة، فليت ذلك يكون! فما أكثر من تركوا الشحم الطبيعي واستعملوا الزيوت المهدرجة، وحيث التنظير في المقدمات والتعليل في الخاتمة كل صار به خبير وينعت نفسه بالبصير، إلا أنه في التطبيق والتمثيل لا يسمن ولا يغني من جوع. فمن هنا وعملا بقول المولى:
﴿ وَيَضۡرِبُ ٱللَّهُ ٱلۡأَمۡثَٰلَ لِلنَّاسِۗ وَٱللَّهُ بِكُلِّ شَيۡءٍ عَلِيمٞ﴾ «النور 35»، فعليه نعمد إلى استعارتين تمثيليتين على اسمين لامعين في الزمان والمكان، وبهما يقتدى ويهتدى ويقابلهما مكانان يستشهد بهما توظيفا وتعريفا وإن صح المعنى لا يصح المفهوم في الدلالة للسياق على أسمائهم الأولى إلا أحد الاسمين الأولين فإنهما لم تغب شمسهما في الزمان والمكان:

ألا ما الهوى والحب بالشيء هكذا يدل به طوعُ اللسانِ فيوصفُ

نعم! ما الهوى هكذا أي: ما تطوعت به ألسن العابثين على الأسماء والدلالات التي لم تسلم منها العلامات، فإذا لم يكن هذا عبثا فما هو العبث الذي ينهى عنه ؟ فقد أحسن القائل:

فأوله سُقمٌ وآخرهُ ضنى وأوسطهُ شوقٌ يشفُّ ويُتلِفُ

فما هو الموجب الذي حدا بهم إلى السقم ثم التلف؟ إنه حب الشهرة وبريقها الزائف وهم قسمان لا ثالث لهما؛ أما مدافع يحترف ومن كل نص يستلف، أو معارض لا يضيره أي شيء يقترف ولا ينفع الندم حين يعترف، وقد اجتمع هذا كله في الكتابات ،ووسائل السوشل ميديا بمختلف تصاويرها وتهاويلها تعليقًا وتلفيقاً ولم يغب عنها شيء فيه سوى التوفيق.

أما الاسم الذي لم تغب شمسه ولا يمارى فيه فبنو هاشم في أرض الحجاز بالمدينتين الكريمتين وما حولهما، والمنتشر منهم في أرض الله يُعرفون ولا ينكرون ويشهرون ولا يغمرون ويوصلون ولا يقطعون، فذكرهم عبر الزمان مسطر في البيان وهم ظاهرون في المكان ولا يجحدهم إلا كل شيطان فتان جريء على البهتان، وقد أحسن أحمد بن الحسين -رحمه الله- حيث قال:

إذا كان مدحٌ فالنسيبُ المقدمُ أكلُّ فصيحٍ قال شعرًا مُتيمُ
لَحُبُّ ابن عبد الله أولى فإنه به يبدأُ الذِّكرُ الجميلُ ويُختَمُ

لا أعتقد أن الشعر بحاجة إلى إيفاء على ما أفاء به، فالطريق أوله شمس وآخره قمر منير فأي وضوح بعد هذا النيرين؟
الاسم الثاني: الروبة (بنو رويبة بن عبدالله) مشيخة بني هلال، وأهل الصلة بقريش عامة وبني هاشم خاصة ، فهم في عموم قريش ومنهم على سبيل المثال لا الحصر: خؤولة خالد بن الوليد -رضي الله عنه-من بني مخزوم، أما بنو هاشم فثنتان من أمهات المؤمنين -رضي الله عنهن-زينب أم المساكين وميمونة بنت الحارث وهي خالة الصحابي الجليل عبدالله بن عباس- رضي الله عنهما-فأي فضل يتطاول إليه غير ذلك إلا فضل العزيز الحكيم وذلك من فضل الله عليهم:

رويبية تمددُ ناصريها بعارضٍ من الموتِ أعراض المخيلةِ واشمِ
حووا للنبي الهاشمي صهورة وهم خولة العباس من آل هاشم
وأخوال سيف الله فازوا بأسهم من المجد لم يتركن سهما لساهم

والروبة حاليا في رنية الفيحاء ترتبط إداريا بإمارة مكة المكرمة من أرض بني عامر بلا خلاف، وأمارتهم في آل قريان بني قرة المستقرة على روابي المجد.
وهذان الاسمان المتمثل بهما من قريش وبني هلال واضح تأصيلهم المُضري وذكرهم الجلي:

وإني لمن قومٍ فأنَّى جهِلْتِهِم مكاسيبَ في يوم الحفيظةِ للحمدِ

ومن ينكر مجدهم وحمدهم فقد جهل الشمس في رابعة النهار، والشمس منظورة للناس إلا من يعشو نظره ولهذا قيل:

ولقد رأيتُ القائلين وفعلهم فرأيت اكرمهم بني الديَّانِ

فإن المجد والرزق سواء كل له ما قسم وقد قال المولى: ﴿ وَلَا تَبۡخَسُواْ ٱلنَّاسَ أَشۡيَآءَهُمۡ ﴾ «الأعراف 85»، النهي مع شدته على البخس فما بالكم بما سواه؟

أما المعلمان المكانيان فهما: الأول تل العُبيد الآثاري في جنوب العراق غرب أور في محافظة الناصرية وإحداثياتها 30°58′20″N 46°01′50″E ، الذي يتفاوت زمان تأسيسه قبل الميلاد بستة آلاف سنة تنيف أو تنقص، وليس المهم المحتوى والموقع والارتفاع والانخفاض والسعة والضيق، وإنما التمثيل على التسمية فالتسمية متأخرة لمن حول المكان حين بداية التنقيب. ولا تزال قبيلة العُبيد في المكان، أما آثاريًا فالسكان القدامى شعب الفرات أو بلاد ما بين النهرين، أما الاسم الآخر المستهل به للاستشهاد فهو قرية ذات كهل وإحداثياتها 19 °47′N 45°09′E والمعروفة حاليا بقرية الفاو، فهي قرية مثل أي قرية وإن كانت لا تساوي أم القرى ومبعث نبي الملأ صلى الله عليه وسلم، ولكن كهلت بمن أُله أي أنه كبير والكبير الله المتعال، أما الفاو فعلى متسع شمال الموقع فاوٍ للرياح فيه تموج وتهوج أي: تسف وتهف؛ تهف النبات وتجرفه:

وحال السَفَا بيني وبينك والعدى ورهنُ السَّفا غَمرُ النقيبةِ ماجدُ
وكلا دوابرها السفا وتهيجت ريح المصايف سومها وسهامها

فكلا الاسمين أُوِّل وحُوِّل دلالة وسياقا وتلاعب به العشاق، والعاشق له مدة وينتهي وإن وصل إلى المورد يرتوي، ولكن الخوف من الفساق أهل النفاق الذين شغبوا وخرّبوا وإن لم يصيبوا، فمن يثني عليهم قال جربوا.

فقد مثلنا وأثلنا تأصيلاً وتفصيلاً إن كل ما سلف لا يروي الغليل ولا يشفي العليل؛ لغياب أهل المعرفة من تفصيل الدليل وتوجيه مقاصد التأويل وإبراز ما إليه يحيل أثر أو تنزيل، فهذه إيماءات لها مقاصدها تهيج أهل الشأن وتبعث الأحزان والله المستعان:

ماذا يهيجُك من ذكر ابنة الراقي إذْ لا تزالُ على همِّ وإشفاقِ؟
فهل كل مُشْفِق مُشفَق عليه؟ وكل داعٍ مجاب إذا اتضح الصواب؟
أنت الأميرُ الذي تحنو الرؤوس لهُ قماقم القومِ من بَرٍّ وآفاقِ

فهل من إمرة فوق إمرة البيان الواضح للعيان:
فسوف يلقاهُ منّي – إن بقيت لهُ – لاقٍ بأحسن ما يلقى به اللاقي

هل هناك أجمل من اللقيا التي تلم الشمل وتنظم العمل، إن ما سبق من التناول لا يُثرب ولا يُغرب على من كتب وعدَل وكل ما لا يصح سمل:

لعمرك لا أهجو …. كلها ولكنما أهجو اللئام بني عمرو

وما أكثر بني عمرو، لا سبر الله لهم أمر:

مشاتيم لابن العم في غير كُنههِ مباشيم عن لحم العوارض والتمرِ
وكنت إذا قوم غزوني غزوتهم فهل أنا في ذا يالهمدان ظالم

إن هذه المعاني المدبجة جواهر في متاجرها تحتاج إلى جوهري يحْسن نظمها وحسناء يُعلق العقد في جيدها، فأي حسناء أجمل من صحيفة مكة قبلة تقتبل وتؤم، في كل شيء ولا يزكى على الله أحد وقد قال المولى: ﴿ لِّتُنذِرَ أُمَّ ٱلۡقُرَىٰ وَمَنۡ حَوۡلَهَا ﴾ «الشورى 7»

* تركي بن شجاع بن تركي الخريم.
* باحث تراث بالمواضع الجغرافية والقبائل.
saudi888777@
وادي الدواسر

هاني قفاص

تربوي - اعلامي مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى