المقالات

تجاهل الزملاء السابقين… ظاهرة مقلقة

في خضم التحولات المهنية والتنقلات الوظيفية، يلاحظ المرء سلوكاً اجتماعياً غريباً بدأ يطفو على السطح، وهو أن بعض الأشخاص ما إن ينتقلوا إلى إدارة جديدة، أو يلتحقوا بجهة أخرى، أو يحالوا إلى التقاعد، حتى يطووا صفحة ماضيهم العملي بالكامل، ويقطعوا جسور التواصل مع زملاء الأمس، فتتوقف الاتصالات، وتتجاهل الدعوات، بل وقد يمتنع البعض عن الرد على رسائل أو مكالمات زملائهم السابقين، وكأنهم يسعون لمحو تاريخهم الوظيفي وما ارتبط به من علاقات إنسانية. هذه الظاهرة ليست مجرد سلوك شخصي عابر، بل مؤشر مقلق على ضعف الوفاء وقلة تقدير الروابط الإنسانية التي تشكلت عبر سنوات من التعاون والعمل المشترك، فمن البديهي أن تظل الصداقة والزمالة ممتدة بعد انتهاء العمل، لأن العلاقات الإنسانية أعمق من مجرد المصالح الوظيفية. وتشير دراسة أجراها Gallup عام 2022 على عينة من الموظفين في 155 دولة، إلى أن 59% من العاملين الذين يحافظون على التواصل مع زملائهم السابقين يشعرون بدرجة أعلى من الرضا النفسي والاجتماعي، مقارنةً بـ 28% فقط ممن انقطعوا تماماً عن التواصل بعد ترك الوظيفة، كما أظهرت دراسة بريطانية نشرتها جامعة Exeter أن العلاقات المهنية الإيجابية التي تستمر بعد انتهاء العمل تسهم في تعزيز الصحة النفسية وتقليل معدلات الاكتئاب بنسبة تصل إلى 35%. وفي ثقافتنا العربية والإسلامية، الوفاء قيمة أصيلة، والاعتراف بالفضل والتقدير لمن شاركونا مسيرة العمل سلوك محمود، ويقول النبي ﷺ: «لا يشكر الله من لا يشكر الناس»، وفي هذا دعوة واضحة لحفظ المعروف ورد الجميل، ما يجعل تجاهل الزملاء السابقين رسالة سلبية تعكس جفافاً عاطفياً وتهميشاً للعلاقات الإنسانية التي كان لها أثر في تكوين الفرد مهنياً وشخصياً. وتتنوع أسباب هذه الظاهرة بين الانشغال بالموقع الجديد، والرغبة في نسيان بيئة العمل السابقة، والنزعة الفردية وضعف مهارات التواصل الاجتماعي، إضافة إلى تصورات خاطئة عن المهنية لدى البعض الذين يظنون أن الانتقال لمستوى وظيفي أعلى يعني قطع الروابط السابقة. ويشير تقرير لموقع LinkedIn عام 2023 إلى أن الموظفين الذين يحتفظون بعلاقات إيجابية مع زملاء العمل السابقين تزيد احتمالية حصولهم على فرص مهنية جديدة بنسبة 42% مقارنةً بمن يقطعون تلك العلاقات، مما يعكس أن الوفاء ليس فقط قيمة أخلاقية، بل أيضاً استثمار عملي في المستقبل. إن التواصل مع الزملاء السابقين ليس رفاهية، بل سلوك حضاري يعكس نضج الشخصية وعمق القيم، والمبادرة بالاتصال أو الرد على الدعوات أو إرسال تهنئة في مناسبة سعيدة كلها تصرفات بسيطة لكنها تحمل أثراً كبيراً في النفوس، فالعلاقات الإنسانية الحقيقية لا تموت بانتهاء عقود العمل، بل تظل شاهداً على أجمل ما في مسيرة الإنسان من تعاون وتآزر. إن تجاهل الزملاء السابقين، عمداً أو إهمالاً، مؤشر على أزمة في الوفاء الإنساني، ويستدعي وقفة جادة لإعادة الاعتبار لقيمة التواصل والاعتراف بالفضل، فكما قال الشاعر:
ما أجمل العهد الذي لا ينقضي حتى وإن طوته يد الأيام.

د. تركي بن فهد العيار

أستاذ الإعلام بجامعة الملك سعود

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. أحسنت يادكتور القول فما قطع العلاقات الإنسانية سوى ضعف في مهارات التواصل ونزعة فردية وقلة وفاء والوفاء كما نعلم من شيم الكرام وسلوك إسلامي محمود

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى