المقالات

صور من التيه والتأمل في قصيدة الطلاسم لشاعر المهجر إليا ابو ماضي

إيليا أبي ماضي، أحد أعلام شعراء المهجر، تميز بأسلوبه الفلسفي والتأملي، وجاءت قصيدته ‘الطلاسم’ لتعبر عن حيرة الإنسان ( من وجهة نظره) أمام أسرار الوجود…”

وشعراء المهجر هم مجموعة من الشعراء العرب الذين هاجروا إلى الأمريكتين، خاصة الولايات المتحدة وكندا، في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. كان للسياق التاريخي الذي عاشوه تأثير كبير على أدبهم. إليك بعض النقاط الرئيسية حول هذا السياق وتأثيره:

1. **الهجرة والاغتراب**:
عانى العديد من الشعراء من مشاعر الاغتراب نتيجة تركهم لوطنهم بسبب الظروف الاقتصادية والسياسية الصعبة
هذا الشعور بالاغتراب انعكس في شعرهم، حيث تناولوا موضوعات الفقد، الحنين إلى الوطن، والبحث عن الهوية.

2. **التفاعل مع الثقافات المختلفة**:
– في المهجر، تعرض الشعراء لثقافات جديدة وتأثروا بها. اختلطت الأدب العربي بالشعر الإنجليزي والفرنسي، مما أدى إلى تطوير أساليب جديدة في الكتابة. استخدموا تقنيات وصور شعرية جديدة، مما جعل شعرهم أكثر حداثة وتجديدًا.

3. **التوجه الفلسفي والتأملي**:
ظهرت مواضيع مثل البحث عن معنى الوجود، التأمل في الحياة والموت، والتساؤلات حول القدر. وكان من أبرز هؤلاء الشعراء إيليا أبو ماضي وجبران خليل جبران.

4. **الابتعاد عن التقليدية**:
– شعراء المهجر تخلوا عن الأشكال الشعرية التقليدية وأدخلوا أساليب جديدة، مما جعل شعرهم أكثر تعبيرًا عن مشاعرهم وتجاربهم الشخصية.

5. **التأثير على الأدب العربي الحديث**:
– أسهم شعراء المهجر في تحديث الأدب العربي، حيث أدخلوا أفكارًا جديدة ورؤى مختلفة حول الشعر والأدب. تأثيرهم لا يزال واضحًا في الأدب العربي المعاصر.

وبشكل عام، كان للسياق التاريخي لشعراء المهجر تأثيرًا كبيرًا على أدبهم، حيث ساهم في تشكيل هويتهم الأدبية والفكرية وفتح آفاق جديدة في الشعر العربي وهذا ما سنلاحظه في قصيدة الطلاسم .

تعتبر قصيدة الطلاسم واحدة من أبرز القصائد الفلسفية في الشعر العربي الحديث، والتي تجسّد الصراع بين التيه والتأمل في أسرار الكون. ويبدو ذلك من خلال مطلعها:

“جئت لا أعلم من أين، ولكني أتيت
ولقد أبصرت قدامي طريقًا فمشيت”

الموضوع الأساسي هو (سر الوجود) الذي احتار فيه الشاعر
وظهرت حيرته جلية من خلال موضوعات القصيدة التي تناولت :

1. أصل الوجود ومصير الإنسان:

أَجَديدٌ أَم قَديمٌ أَنا في هَذا الوُجود
هَل أَنا حُرٌّ طَليقٌ أم أسير في قُيود

2. الصراع بين الشك والإيمان

هَل أَنا قائِدُ نَفسي في حَياتي أَم مَقود
أَتَمَنّى أَنَّني أَدري وَلَكِن لَستُ أَدري

3. الموت وما بعده:

ولقد قلت لنفسي وأنا بين المقابر
هل رأيت الأمن والراحة إلا في الحفائر

فنظرت فإذا الدود يعبْث في المحاجر
ثم قالت: أيها السائر إني لست أدري

كما تضمنت القصيدة معاني ودلالات التضاد بين الفلسفة والحكمة حيث احتوت على تأملات فلسفية حول العالم وطبيعة الإنسان، مما يعكس تيه فكر الشاعر وتأمله .

قَد سَأَلتُ البَحرَ يَوماً هَل أَنا يا بَحرُ مِنكا
هَل صَحيحٌ ما رَواهُ بعضهم عَنّي وَعَنكا

أَم تُرى ما زَعَموا زورا وَبُهتانا وَإِفكا
ضَحِكَت أَمواجُهُ مِنّي وَقالَت لَستُ أَدري

ففي هذا المقطع، يحوّل أبو ماضي البحر من كيان صامت إلى شريك في الحوار، مما يعكس رغبة الإنسان في التواصل مع الكون بحثًا عن إجابات. لكن ضحك الأمواج وقولها ‘لست أدري’ يكرس فكرة العجز الكوني أمام أسرار الوجود، وكأن الطبيعة نفسها تتشارك مع الإنسان في نفس الحيرة.”

كما تضمنت تفاعلات الإنسان مع الطبيعة، وكيف تُشكل هذه التفاعلات جزءًا من تجربته الوجودية.

أَيُّها البَحرُ أَتَدري كَم مَضَت أَلفٌ عَلَيكا
وَهَلِ الشاطِئُ يَدري أَنَّهُ جاثٍ لَدَيكا

وَهَلِ الأَنهارُ تَدري أَنَّها مِنكَ إِلَيكا
ما الَّذي الأَمواجُ قالَت حينَ ثارَت
لَستُ أَدري

في السياق الحديث، اعتبر البعض “الطلاسم” ليس كتعبير عن اليأس، بل كـ بحث نشط عن المعنى. وهو ما يتوافق مع نظريات فلسفية معاصرة ( وهي نظريات تتعارض مع الرؤية الإسلامية التي تؤمن بمعنى الوجود المطلق من الخالق عز وجل.) مثل :
· الوجودية لسارتر وكامو، التي ترى أن الإنسان يُخلق دون معنى مُسبق، ويجب عليه أن يخلق معناه الخاص.
· الشك المنهجي لديكارت، الذي يُعتبر خطوة ضرورية للوصول إلى اليقين.

وفي المقابل، واجهت القصيدة هجومًا من الأوساط المحافظة، حيث اعتُبرت تحديًا للعقائد الدينية . بعض النقّاد رأى فيها انزياحًا خطيرًا عن الإيمان.
وقد ردّ الشيخ عبدالحميد السماوي بقصيدة “أنا أدري” التي دافع فيها عن اليقين الديني، قائلًا: “ليس يدري… قد تغشيت به الكون إلى ما ليس يدري” .

حتى ان أبو ماضي نفسه أبدى إعجابه بهذا الرد واعترف بقوته .

‎كما رد العلامة المرحوم الشيخ محمد جواد الجزائري «1298-1378ه» والمعروف بحل الطلاسم،!
بأبيات يقول في مطلعها :
‎دلني الإمكان وهو الرائد المتبع
أنني فيض وللفيض مفيض مبدع
‎فأنا عن واجب مقتدر مندفع
ليس لي حد سوى الفقر إليه.. أنا أدري

في الختام
تُعد “الطلاسم” مرآةً لحالة من القلق والتساؤل التي يعيشها الكثير من البشر، مما يجعلها قصيدة خالدة في أدبنا العربي. كما يبرز من خلال السياق التاريخي لشعراء المهجر التأثير الكبير الذي تركوه في تطور الأدب العربي الحديث، حيث أسهموا في فتح آفاق جديدة للتعبير عن المشاعر والأفكار. في النهاية، تبقى قصيدة “الطلاسم” دعوةً للتأمل والتفكر، تذكرنا بأن البحث عن المعنى هو جزء أساسي من التجربة الإنسانية.

• عضو هيئة تدريس سابق – جامعة الملك عبدالعزيز

أ.د. عصام يحيى الفيلالي

أستاذ سابق – جامعة الملك عبدالعزي

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. تحليل رائع للقصيدة واضافة جميلة لما ورد فيها اعتقد انك اديب سارت به الخطى للعلوم وان كانت الجلوجيا هي طلاسم الارض التي بحثت فيها انت وطلابك وكشفتم بعض اسرارها.. استمتعت بالمقالة جزاك الله خيراً..

  2. احسنت اخي ابا ياسر بنشر بعض المعارضات لهذه القصيدة وهناك معارضة اخرى من ا د ربيع السعيد عبدالعليم رحمه الله حيث وضح فقدان ايليا للبوصلة الأساسية والتي نعتبرها كمسلمين من الأساسيات والتي اخبرنا عنها سيدنا محمد ﷺ ” حيث تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك ”
    وهذا رابط لمعارضة بروف ربيع رحمه الله
    https://adabislami.org/magazine/1969/12/2196/119

اترك رداً على عدنان عبدالله المزروع إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى