قرأت بحث للدكتور علي الغبان عن نتائج الابحاث الأثرية لميناء اكراكومي ومعبدها المسمى “القصير ” ،على الساحل الشرقي للبحر الأحمر فأخذني النص من بين السطور إلى ماضٍ سحيق، كأنني أستمع إلى وقع خطوات البحارة على درج المعبد، وأشم رائحة البخور الممزوجة بملح البحر، وأرى المراكب تتهيأ للإبحار نحو المجهول.
هناك، على ضفاف وادي الحمض، وعلى مقربة من مدينة الوجه على ساحل البحر الأحمر، يقف المعبد شامخًا بين أطلاله، كأنه شاهد حضاري يروي حكاية ميناء جمع بين قدسية المعبد وحيوية البحر، فكان أكثر من مجرد مرسى للسفن؛ بل فضاءً تفاعلت فيه التجارة والطقوس الدينية ،وتشابكت فيه حياة الناس اليومية مع البحر المفتوح.
كل أثر تم العثور عليه في هذا المكان يمنحنا نافذة على تفاصيل الحياة اليومية. فالأواني الفخارية النبطية تكشف عن هوية السكان وأساليب عيشهم، بينما وجود الفخار الروماني يثير التساؤل: هل تركه جنود عابرو سبيل من حملة أيليوس غالوس الرومانية؟ أم جاء به تجار عبروا من سواحل المتوسط؟ أما الخربشات الكتابية على درجات المعبد، فقد حملت أسماء أشخاص ورسوماً لحيوانات، وكأنها تدوينات عابرة تعكس حياة ثقافية وإنسانية نابضة. إنها أدلة صغيرة، لكنها كافية لترسم لنا صورة مجتمع متنوع يتقاطع فيه المحلي بالعالمي.
ويقول بلوتارخ: “قد تجد مدينة بلا أسوار ولا قصور، لكنك لن تجد مدينة بلا معبد”. وهذا ما يفسر وجود معبد شامخ بجوار ميناء أكراكومي؛ إذ لا يقوم مثل هذا البناء إلا حيث يوجد تجمع بشري كثيف يحتاج إلى مركز روحي يوحّد الناس. ومن هنا يصبح المعبد شاهدًا على مجتمع لا يكتفي بالتجارة بل يبحث عن الحماية الروحية والهوية المشتركة، حيث اجتمع البحارة والتجار تحت سقفه طلبًا للأمان قبل رحلاتهم.
المكتشفات البرونزية، مثل أجنحة الطيور وحوافر الخيل، ربما كانت نذورًا يقدمها المسافرون، فيما بقايا بيض النعام والأصداف البحرية تشير إلى أن الحياة لم تكن منفصلة عن البيئة المحيطة. وهكذا، كل كسرة فخار أو قطعة معدنية أو نقش على جدار، تكمل فسيفساء يومية تكشف كيف عاش الناس وتفاعلوا في هذا الميناء العتيق.
قرب المعبد من مرسى اكراكومي، الذي ما زال يحمل اسمه النبطي القديم، يؤكد أهمية الموقع كحلقة وصل بين مدائن صالح والعلا والساحل عبر طريق الخرّار. فقد كان أكراكومي ميناءً استراتيجيًا يستقبل السلع القادمة من مصر والشام والبحر المتوسط، ويصدّر البخور والجلود والتمور إلى أسواق بعيدة. وهكذا تحوّل البحر الأحمر من مجرد معبر مائي إلى فضاء حضاري عابر للثقافات، تجسدت فيه الهوية النبطية من خلال العمارة والتخطيط المشابه لمعابد جنوب الأردن والأنباط في النقاب.
معبد أكراكومي وميناؤه لم يكونا مجرد أطلال صامتة، بل انعكاسًا لحياة نابضة جمعت بين القداسة والاقتصاد، بين الروح والتجارة. ففي كل عمود رخامي، وفي كل نقش محفور، وفي كل كسرة فخار، يتجلى حضور حضارة لا تغيب، تؤكد أن هذه الموانئ العتيقة على البحر الأحمر كانت أكثر من محطات عابرة؛ كانت جسورًا تربط الإنسان بالبحر، وتفتح للجزيرة أبوابًا نحو العالم.
واليوم، بينما تشهد سواحل البحر الأحمر نهضة كبرى عبر مشروعات مثل نيوم ومشروع البحر الأحمر، يعود صدى تلك الموانئ القديمة ليذكرنا أن البحر ظل على الدوام مسرحًا للحضارة، وأن ما نشهده اليوم من رؤية للمستقبل ليس إلا امتدادًا لحكاية بدأت منذ آلاف السنين، حين أدرك الإنسان أن البحر ليس مجرد طريق للملاحة، بل جسر للحياة والتواصل وصناعة التاريخ







سبحان الله هل يوجد قدسية لمعبد يتعبد فيه لغير الله؟