من ذاكرة الحجر ….
في عمق الصحراء، على صخور قارا بمنطقة الجوف، نقوش بسيطة في ظاهرها، لكنها مفعمة بنداء الإنسان الأول إلى أحبته:
1 – “بواسطة أمر بن عرج واشتاق إلى مَرَت بالرقيم”
«بواسطة وائل بن عهن واشتاق إلى عرج بن أُمَر، يا الله السلامة»2-
«لشمس بن مسلم بن سعد الله بن وهب الله، سافر، فيا اللات السلامة»3-
«بواسطة شمسي بن سلمة، واشتاق إلى إياس أخيه… وسافر، فيا اللات السلامة»4-
«بواسطة شفيق الذي هاجر»5-
تأملتُ هذه النقوش التي وثّقها أ. د. سليمان الذييب، في كتابه المعنون ب ـ” نقوش قارا الثمودية بمنطقة الجوف بالمملكة العربية السعودية”، فشعرت أن شوق الإنسان لا زمن له، وأن أثر المسافة التي تفصل بين القلوب هي ذاتها منذ آلاف السنين. من هنا بدأت فكرة هذا المقال… عن الشوق وضبط المسافات في العلاقات الاجتماعية..
ما أشبهَ اليومَ بالأمس! ذاك المسافرُ الثمودي الذي خطّ شوقَه على صخر الجوف، يشبهنا حين نغادر مدننا وأصدقاءنا ونكتب رسائلنا في فضاء إلكتروني بدل الصخر. تبدّلَت الأدواتُ وبقي الجوهر: خوفٌ من البعد، تعلُّقٌ بالأحبة، ورجاءٌ بسلامةِ الطريق ولمِّ الشمل.
فهل المسافات قادرة على أن تُبقي القلوب معلّقة بين الشوق والنسيان؟ هل يكفي القرب الجسدي وحده لبقاء المودة، أم أن الأرواح هي التي تقترب حقًا؟ ولماذا حين نغيب قليلًا نشعر أحيانًا بأننا أقرب، وحين نكثر الحضور نفقد شيئًا من البهجة؟ هل كل غياب يعني جفاء، أم أن بعض الغياب ضرورة لحفظ المعاني الجميلة؟ ثم لماذا نُحمّل المسافات كل الذنب في فتور العلاقات، بينما قد يكون الخلل في فتور القلوب لا في طول الطريق؟
في واقع الأمر، ليست المسافة دائمًا خصمًا للعلاقات، بل قد تكون فرصة لتهذيبها وإعادة توازنها. فالقرب الزائد أحيانًا يُرهق، وكثرة التواصل قد تفسد نقاء المودة. لذلك قال القدماء:
«زر غبًّا تزدد حبًّا»، فبعض الغياب لا يُطفئ الودّ بل يصونه من الاعتياد.
ومع ذلك، لا يمكن إنكار أن البعد الطويل قد يبهت معه الشعور، حين يُهمل الطرفان خيوط التواصل، فيغدو الصمت جدارًا سميكًا يفصل بين القلوب. عندها لا تكون المشكلة في المسافة، بل في غياب الاهتمام، وفي ضعف الجسور التي تربط الأرواح ببعضها..
كم من قريبٍ في المكان بعيدٍ في الإحساس، وكم من صديقٍ تفصله عنك مدنٌ وبحار، لكنه حاضر في تفاصيلك اليومية كأنه يعيش بجوارك! فالمسافة ليست في الأميال، بل في القلب الذي يتسع أو يضيق، يحفظ أو ينسى..
من المتعارف عليه أن المسافة، كلّما امتدّت، تولِّد في القلب شوقًا يضيق به الصدر، فيدفع الإنسان للبوح بما يختلج في نفسه. فحين يطول الغياب، لا يجد المرء ما يُطفئ لواعجه إلا أن يكتب أو يترك أثرًا يحاكي صوته الغائب. وهكذا كان إنسان الجزيرة العربية القديمة؛ لم يكن يملك ورقًا ولا بريدًا، فاختار الحجر شاهدًا على مشاعره. في نقوشه ترك أثرًا خالدًا، مفعمًا بالشوق والدعاء بالسلامة، ليقول لنا بعد قرون إن أثر المسافات في النفس واحد، مهما اختلفت الأزمنة.
.
في زمنٍ تختصر فيه التقنية كل المسافات، لم يعد البعد الجغرافي مبررًا للفتور، بل صار اختبارًا حقيقيًا لصدق العاطفة. فالعلاقات التي تصمد رغم الغياب، هي تلك التي بُنيت على عمق، لا على تكرار اللقاءات.
إن المسافات لا تقتل الودّ، لكنها تميّز بين من يحب حضورك، ومن لا يشعر بغيابك. وربما خُلقت المسافات لا لتفرّق القلوب، بل لتمنحها فرصة الإنصات إلى نفسها. فالقرب المستمر يُغري بالتساهل، أما البعد فيعلّمنا قيمة اللقاء، ويعيد ترتيب المشاعر على مهل. المسافة، في جوهرها، ليست قياسًا بالكيلومترات، بل تجربة روحية تُنضج الحب وتكشـف أصالته..
ولهذا، لا أؤمن بالقطيعة كخيارٍ أول، فبعض العلاقات لا تحتاج إلى نهاية، بل إلى إعادة ضبط المسافات. فثمة اقترابٌ يرهق، وبعدٌ يُنقذ، وتوازنٌ دقيق يعيد للحب صفاءه، وللأرواح أنفاسها. ما أبعدتك جفاء، بل أعادت الحياة ترتيب المسافة كي يبقى الودّ ممكنًا، فالقرب الزائد أحيانًا يؤذي، أما المسافة المنضبطة فهي التي تحمي المودة من التآكل..





