
لا أحد يعرف على وجه اليقين سبب العداء المتعاظم بين صفية وحماتها عبلة. قد يكون أنَّ صفية حين دخلت عليهم بفستان زفافها المنفوش كطاووسٍ ملائكيٍّ أزاحت عبلة عن عرش بيتها لتطفو فيه كماءٍ لا حاجة لأحدٍ به، شأنها شأن قارب أرخميدس الشهير. وقيل إن عبلة تجاهلت إفطار الشكشوكة الذي تحبه صفية صبيحة عرسها، تاركةً إياها تستيقظ (على لحم بطنها) كمتسولٍ لا يأبه له أحد.
عبلة في أعماق روحها تعرف أن دخول صفية عالمها لم يكن السبب الرئيس لشرخ علاقتها ببكرها هاشم. فمنذ اللحظات الأولى لانطلاقه من بطنها المنتفخ تعامل معها هاشم ككائنٍ فضائيٍّ يخطط لخطفه. جعيره الذي لا ينقطع كان سببًا دائمًا لتوتُّر طبيبه الخاص، كما أن عيافه عن التقام ثديها وتفضيله للمرضعة البلاستيكية كان مدعاةً لسخرية أمها وعجائز الأسرة من غريزة أمومتها المعيبة.
حين بلغ هاشم الرابعة من عمرة ألحقته بحضانةٍ خاصةٍ تدرُّس الإنجليزية والفرنسية، والصينية يوم الخميس. كانت فخورةً بإنجازات طفلها الذي تفتقت عبقريته اللُّغوية كشمس الضحى وهو يطلق التحايا يمنةً ويسرةً بهجينٍ من اللغات الحية، معظمُها لا يفهمها أحدٌ بمن فيهم عبلة. ولكن هذا الطفل الذي برز نبوغه منذ سنٍ مبكرةٍ كان ينشغل بالتبديل بين اللغات الحيّة كمتحكِّم سيارةٍ رياضيةٍ مراوغةٍ، وينسى كثيرًا أن ينظر في المرآة الخلفية لوالدته عبلة.
ذات يومٍ في حجرته، التي يحرص دومًا على إغلاق بابها دونها، جلست على حافة سريره تتابعه في المرآة بحبٍّ. كان اجتماعهما الصامت لحظةً تاريخيةً ندُر أن يجود الزمان بمثلها، فهو دومًا مُلتهٍ بعمله في المستشفى، مرضاه الكثيرين، وأبحاثه العالمية القيِّمة. تأمَّلته وهو مستغرقٌ بشكلٍ لافتٍ في تصفيف لحيته الكثَّة، كل شعرةٍ باتجاهها، وكل تفصيلةٍ في مكانها. أتبع كل ذاك الجهد بطلاءِ وتلميعِ وجهه بكريمات العصر والقيلولة.
– هاشم… هل بإمكانك مناداتي بأمي؟!
سألته في توسلٍ مغلفٍ بكثيرٍ من المزاح. تريد أن تحتفي بأمومتها كغيرها وبلغةٍ تحبها وتفهمها. أجابها بمزاحٍ مغلفٍ بكثيرٍ من اللامبالاة:
– أوكي مامو!
– قل أمي!
– شور موم!
ردَّ على عجالةٍ رافعًا حاجبه الأيسر المزجَّج، منشغلًا بتمشيط عارضيه وتثبيت لحيته بالصمغ الشمعيِّ. تنهدت وارتخى كتفاها المتشنجان في استسلامٍ. أيقنت يومها في هدوءٍ ودون كثيرٍ من العويل الأمويِّ الممجوج أن لحية هاشمٍ هي استثماره الأهم في حياته المليئة بالإنجازات الفردية.
لكنَّه، وفي أسوء مراحل علاقتهما الثلجية، كان يطلبها أن تطبخ له الكبسة بالدجاج عند منتصف الليل بعد مناوبةٍ ممتدةٍ. وكان يلجأ أيضًا إلى مدَّخراتها البنكية حين يقرر أن يغير سيارته، ولا ينسى أن يذكرها بدعوته لعشاء عيد الأمِّ كل عامٍ. وفي صبيحة عيد الفطر كانت رسالته الهاتفيَّة تصلها دومًا قبل تكبيرات العيد:
– عيد مبارك مامو… لا تنسينا من عيديتك!
مذيلةٌ بـ (إيموجي) يغمز بإحدى عينيه ضاحكًا.
ثم تزوج هاشم بزميلته الدكتورة صفية…
وعجزت عن قراءة كنَّتها كعجزها مع هاشم. افترضت أن صفية هي النسخة المطوَّرة منها، لكن بنابٍ أزرقٍ مدسوسٍ في كمِّها الأبيض الأنيق. ومنذ اللحظات الأولى اكتشفت صفية، بذكائها الطبيِّ النادر، مفاتيح شخصية هاشم فأنشبت فيه نابها والتصقت بغراءٍ طبيٍّ دبقٍ. بدى جليًا للجميع أن هاشمًا وجد بديلًا لكبسة منتصف الليل ومدخرات أمِّه البنكية. مع الوقت تبدَّلت “موم… ومامو… وما” إلى عبلة (حاف) أو (أم هاشم) في أحسن الأحوال، وكأن زواجه قفز به عشرات السنين ليقفا معًا على عتبةٍ عمريةٍ واحدةٍ.
أيقنت عبلة مرةً أخرى وفي هدوءٍ مماثلٍ، دون كثيرٍ من العويل الأمويِّ الممجوج أنها خسرت معركتها لصفية، ذات الناب الأزرق.
وفي ذلك اليوم، وكان يوم عيد فطرٍ، بعد غياب رمضان بأكمله، قررت أن تزور بيته، متخذةً من إيصال عيديته ذريعةً لتذكيره بأمومتها المسلوبة. مرت سنواتٌ ليست بالقليلة وهي تحلم أن يطرق هاشم باب بيتها بهديةٍ تناسب دخله الفلكيِّ، سائقًا معه صفية من شعرها كتيسٍ جبليٍّ ليطبعا قبلةً أنيقةً على يدها وينادياها بأمي. كانت تلك الزيارة الحلم تُختزل غالبًا إلى مكالماتٍ هاتفيةٍ متوترةٍ يعلو فيها صوتُه، ممسكاً بتلابيب ثوبها الافتراضيِّ في غضبٍ، مدافعًا عن صفية إثر اعتداءاتٍ افتراضيةٍ أيضًا نسجها خيال زوجته.
تقلَّبت في فراشها طوال اللَّيل حتى تكوَّر غطاؤه الأبيض الرقيق في ضجرٍ وانقشع عن مرتبةٍ عانت هي الأخرى من أرقِها. راحت تُدرِّب نفسها على عشرات السيناريوهات المحتملة، العاتبة والغاضبة، المتذلِّلة والرَّاجية، وحتى تلك الممتلئة بالقفشات المفتعلة والذكريات الطفوليَّة التي غالبا لن يذكرها ابنها. وفي كل السيناريوهات التي استشرفتها كانت ترى صفية في إطار المشهد بأناقتها المفتعلة ووجهها الصلف، تتأمَّلها وهاشم في رجاءٍ متمنيةً أن تكون جزءًا من تلكم الذكريات. وبابتسامة شامتةٍ كانت ترسم في مخيلتها صفية جاثيةً على ركبتيها في ذلٍّ، تمسح بكم ثوبها الحريري الباهظ نعليها وهي تخلصهما منها في أنفةٍ.
استيقظت متعبةً، آثار أحلامها وحواراتها المتضاربة طيلة الليل مرتسمةٌ على وجهها. ارتدت ثوب عيدٍ بفصوصٍ براقةٍ، وضعت الظرف المتخم بعيديتها في حقيبتها، وركبت سيارتها آمرةً سائقها بتتبع الـ (لوكيشن) الذي أعطاها إياه هاشم قبل أشهرٍ. في المرآة الأمامية كان السائق يتأملها في توجُّسٍ. شفتاها تتمتمان بحواراتٍ افتراضيةٍ منفعلةٍ، وملامحها تتجاوب بتعابيرٍ مهتاجةٍ.
امتدَّ الطريق نحو ساعةٍ ونصفٍ في مدينةٍ شبه خاليةٍ يوم العيد. وجدت نفسها تتفرَّع من شوارعٍ رئيسةٍ إلى أخرى أشبه بشعيراتٍ دمويةٍ هامشيةٍ، حتى أعلنت الخارطة وصولها للعنوان.
تأمَّلت المكان بحيرةٍ. كانت السيارة المنهكة تقف وحيدةً وسط صحراءٍ جرداءٍ لا يُرى آخرها.
سمعت رنين رسالةٍ نصيَّةٍ واردةٍ إلى جوالها. فتحتها في خضَّم حيرتها:
“عيد مبارك أم هاشم… لا تنسينا من عيديتك”
مذيَّلةٍ بـ (إيموجي) يغمز بإحدى عينيه ضاحكًا.


كأن كاتبة المقال الدكتورة سمر إبنة كبير الإعلام الأستاذ مدني علاقي، كأنها تصف حال كثير من بيوت المجتمع المعاصر، و صراعات خفية بين جيل تربى على الأصالة و التراث، و جيل يعيش طفرة معاصرة لتداخل ثقافات الشعوب، #أعجبني_السرد