
للوهلة الأولى لفت انتباهه الصمت المهيب الذي عمَّ المكان حين دخل. كأن العالم أخذ نفسًا عميقا ونسي أن يزفره. الحجرة الهائلة بحجم السماء كبيت نمل يبحث عن ملكته، مكتظة بالبشر المنهمكين. كلهم بسراويل مخططة بالأحمر والأخضر وفنيلات بيضاء بأكمام طويلة، مشدودة بإحكامٍ خلف ظهورهم.
ناداه صوت مألوف:
“عدت يا يوسف”
قالت له العجوز الوقور، ذات الثوب الأبيض والوجه الملائكي الوضيء. لم يعرف من نبرتها إن كانت تسأل أم تعلن في انتصار وتشفٍ عودته.
“هذا “الديجاڤو مرة أخرى!”
حدثته نفسه مشوشةً. هل كان هنا من قبل؟
ثم تذكر…
في صمت…
في دهشة…
واتسعت عيناه حتى كادتا تقفزان من محجريهما.
سريرة المبعثر في إهمال… لحافه المتسخ ببقع آيس كريم الكاكاو… خطاب توديعه لعالمه البائس بخطه الرديء… الكرسي ذي الأرجل الثلاثة المختلة… وشريط حباتٍ مهدئةٍ زرقاء في كيس صيدلية مغلق بشريط لاصق.
تداعت الأحداث في ذاكرته، متداخلةٍ، متسارعة، غير مترابطة. كان يلف الحبل المبروم المتدلي من النجفة العلوية حول عنقه. “لن أموت الليلة… فقط أجرب عدة طرق ثم أختار”. قال لنفسه مطمئنًا. يتأمل الكيس البلاستيكي المحكم فوق سطح (الكوميدينو) بجانب السرير.
“قد تكون أنت خياري البديل!”. يحدث كيسه في تردد.
وبانتشاءٍ وإحساسٍ عارمٍ بالنصر تخيَّل وقع إنهاءه لحياته على مجتمعه. سيكون مسرحيةً دراميةً مدويةً، وينفجر الخبر كقنبلةٍ هدروجينيةٍ مارقةٍ. “انتحار رجل أعمالٍ مرموقٍ لأسباب مجهولة!” الكل سيذهل ويسح دموعًا غزيرةً على فقده. “هي بالذات سيزلزلها الخبر حتى النخاع!”. تنهَّد وتذكر خيانتها وتخليها عنه بعد الحادث وإشهار إفلاسه.
فاجأته ساقه المعتلة بالتواءٍ غير محسوب. اختل توازن الكرسي الصغير وانكسرت إحدى قوائمه المنخورة. صاح تحت وطأة المفاجأة.
– يا إلهي…لا.. لا!
شعر بجسده السمين يتأرجح في الهواء تأرجحًا حرًا كبندول ساعةٍ منضبط. دخلت تجري نحوه متعثرة. عيناها متسعتان على وسعهما. وجهها كالهلع في أبرز صوره. اختلط عويلها ببكائها: “أيها المجنون… أيها المجنون!”.
حين فتح عينيه شعر للوهلة الأولى أنه يستيقظ من كابوسٍ مروِّعٍ. كل الكوابيس مفزعة، لكن هذا بالتحديد نال “أوسكار” الإبداع والتميز في نظره. قلبه متسارعٌ كعداء أولمبي فاقد اللياقة. جسده كطريق غير معبد تتسارع عليه آلاف الشاحنات الهائلة. عضلاته تُمطُّ وتُضغط في ذات الوقت كعجينة لا قوام لها. بجانبه استلقى الكرسي الصغير ذو القوائم الثلاثة، معكوس الاتجاه كأنه يعاقبه على فعلته. قائمته الرابعة تبرز من فنيلته كبرعمة أجاصٍ مثمرة.
حاول أن يتمطط لكن القميص المربوط بإحكام خلف ظهره حجَّمه. الحبل المبروم لا يزال ملتفًا حول رقبته.
– أين أنا؟
سأل مبلبلًا وصداع يشج رأسه.
– اطمئن… أنت ضيفنا هنا. نتمنى أن تكون أخذت قسطًا من الراحة. مرحبا بك في “الدهليز”
أجابته العجوز الوقور بعبارة بدت أبعد ما تكون عن الطمأنينة.
– الدهليز؟!
جاهد ليعتصر المعاني العابرة في حياته للاسم.
– لماذا أنا مقيد هكذا؟! وما هذه الرائحة العطنة! فكوا قيدي وأعطوني رشفة ماء؟ أكاد أموت من العطش!
كانت العجوز تجلس إلى طاولةٍ مستطيلةٍ فاخرةٍ مع آخرين، الكل في عباءات بيضاء بلون الحليب، يغمرهم الوقار والنور. المكان مثقلٌ بروائح بحر خانقةٍ بدت معتادةً لهم. يراجعون بسرعة كونية آلاف المجلدات المتخمة. على كتفها بومةٌ فاغرة العين تتأمله في فضول.
– أترى هذه الغرفة المكتظة؟ كلهم هنا احتفالًا بتميز نهاياتهم!
تأمل الغرفة بحثًا عن تفسير منطقيٍّ لوجوده بينهم، ومنقبًا عن أي رابطٍ وجيهٍ أو خوارزمية عقلانية تجمعهم. المكان يموج برجال ونساء من شتى الأعمار والأجناس، مختلطين، ممتزجين كذرات الهواء. في فنيلاتهم ذات الأكمام الطويلة شبه براعم مزهرة، ليست كالتي يعرفها، مقصات ملونة، سكاكين طبخ بأيدٍ خشبية باهتة، معاول ودراجات. بعض الفنيلات كانت أشبه بسماء ليلةٍ صافيةٍ، مرصعة بحبات دواء مختلفة الألوان والأشكال والأحجام. سمع أصوات أطفال صغار يجرون في المكان بسعادة.
غمر عينيه عرق غزير وحاول أن يقول شيئا فخرج صوته ضعيفًا مبحوحًا كقطيط هزيل.
– أتعرف أين يذهب المنتحرون أمثالك يا يوسف؟
– منتحرون! هل تمزحون؟!
أجاب معترضًا غير مصدق.
بدأوا يناقشونه جريمته في هدوء، متغافلين الحجرة المكتظة بآلاف الأكمام المربوطة للخلف والصياح والجدل المطالب بتخفيف الأحكام. قالوا له ساخرين أنه لو خطط وبحث في جوجل بشكل أفضل لوجد وسائل أقلَّ إيلامًا من خياره المستهلك.
– قد فاتكم شيء حيوي أيها الأفاضل الكرام… ألا تذكرون؟ الكرسي المنخور؟ ساقي العليلة؟ القدم التي انكسرت فجأة؟ كنت مبيتًا النية حقًا لكني لم أفعلها. حدث خطأ كوني عجيب أوصلني إلى هنا.
– ولكنك كنت تخطط لإنهاء حياتك…ألا تذكر… الشريط الأزرق؟ الكيس المغلق بإحكام؟ الكوميدينو؟ هل نسرد لك أدلة أخرى؟
– ولكني لم أنفذ مخططي! ما أدراكم أني كنت سأجبن وأكمل ليلتي في سريري؟!
شعر بارتباكهم إذ راحوا يتناقشون في حرج تزايد مع الوقت وانقلب شجارًا علت فيه أصواتهم.
– اعترف… كنت تنوي قتل نفسك لتنهي الألم، بغض النظر عما آلت إليه الأمور… ألا ترى أن هذه النية بحد ذاتها كفيلةً بحكم غير مخفف؟
– كنت أريد تخليص نفسي من عذاب روحي وألم نفسي ممتد… لم أستشرف الخطأ الكوني الذي حدث! هل النيات في حد ذاتها جديرة بالمحاسبة؟!
تأملوا بعضهم في حنق قبل أن يستأنفوا من جديد:
– لقد أصبحت رمزًا لكل الجبناء من بعدك… أولئك الذين فروا من تعاسة الحياة والألم اقتداء بفعلتك. انظر إلى الممثل ستيفن ويليامز، هناك تحت شجرة الجميز الحمراء.. سمع عنك بعد أيام من موتك فأنهى حياته بحبل مماثل.
– وما ذنبي أنا؟! ثم أني لا أحب الأفلام ولم أسمع بستيفن هذا في حياتي!
ودون التفات لنبرته الساخرة أضافوا:
– هل فكرت أن تصبر قليلًا؟! لو أمهلت نفسك عامين… عامين فقط لرأيت عفاف عائدةً إليك تائبة محبة هي وملايينك التي فقدت. كنت ستخرج مما ظننته نهاية العالم إلى حياة أجمل، أفضل، أكثر رحابةً وإشباعًا من حياتك السابقة. ألا تعرف أن الألم هو جزء من نسيج الحياة! يا رجل… ألم يدرسوك شيئًا من الفلسفة في المدرسة!
– سنتين!! تريدونني أن أنتظر سنتين! ماذا بقي في العمر بعد هتين السنتين؟!
تهامسوا بينهم، يرمقونه بنظرات ذاب لها جسده.
– اسمع… ماذا لو قلنا لك إن بإمكانك التوبة الآن… فقط اعترف بخطئك وقد نفكر بفك فانيلتك.
– قلت لكم إن خطئًا كونيًا حدث… لماذا لا تعتذرون أنتم! لن أعتذر عن قرار لم يكن بيدي!
تأففوا في ضجر وانكبوا على مجلد كبير منقوش عليه اسمه وصورة له لحظة ولادته. علت الأصوات من جديد وتناثرت صفحات من مجلده. “اسمع يا بني”. قالت العجوز بعد ان استنفد النقاش طاقتها.
– رغم تعاطفنا معك وتفهمنا لوضعك الحرج إلا أنك وصلت هنا وباتت خياراتك محدودة الآن!
شعر بلسانه متدليًا ككلب مدجن، يرتدي العرفان لمالكه.
– أشكر معاليكم لتفهمكم… لم أكن مدركًا أن الخيارات لا تنتهي بالموت! شكرا… شكرا من القلب!
ضم باطن راحتيه محنيا رأسه في خضوع.
– أولا…
قالت العجوز بحزم رافعةً سبابتها في وجهه. الآخرون يومئون برؤوسهم مؤكدين، وكأنهم يقرؤونها دون عناء.
– أن تساق بالطبع إلى حيث يورد المنتحرون.
شهق وحاول أن يحرر ذراعيه من جديد.
– أن تظل معنا هنا إلى أن يحال أمرك لسلطةٍ أعلى منا… ربما بعد عام، قرن، أو في الألفيَّة القادمة.
– بالطبع لا! أبقى معكم مربوطًا في هذه الفنيلة الخبيثة؟!
– أو أن نعطيك فرصةً أخرى ونعيدك للحياة ونرى ما ستصنع…
اجتاحه ارتياح عارمٌ وراح يومئ برأسه موافقًا بشدة، ساحًّا دموعًا كادت تغرق الحضور.
– لكنك لن تتذكر شيئًا من حوارنا هذا أو إقامتك معنا… حقيقةً… قد ترانا في السوبرماركت أو السينما بجانب بيتك فتعبرنا عبور الكرام.
– موافق… موافق… موافق… أي شيء لأخرج من هذه الفنيلة والسروال المهين!
– انطلق اذً!
في لحظةٍ ودون ترددٍ أولاهم ظهره وأطلق ساقيه للريح كطفل أفلت من كلب شوارعٍ مسعور. أكمام فانيلته الممتدة تتراقص في الهواء خلفه وسرواله المخطط بالأحمر والأخضر يتدلى إلى ركبتيه.
نظروا لبعضهم وابتسموا.
– ترون أنه سيعود كعادته؟!
استدارت إليهم البومة ولم تعقب.
نص “الدهاليز” للكاتبة أ.د. سمر مدني علاقي، ليس مجرد قصة قصيرة؛ بل تجربة سردية كثيفة، تلامس الطبقات الخفية من النفس البشرية حين تُحاصَر بين اليأس، والندم، وفرصة لا تُشبه الفرص.
بحبكة ذكية تمزج بين الرمز والمفارقة، نُسجت القصة في دهليز غامض أشبه بـ”برزخ أدبي” يحاكم النوايا قبل الأفعال، ويعيد مساءلة القارئ عن خطٍّ رفيعٍ يفصل بين التفكير في الانتحار وتنفيذه.
فجأة، يتحول الكرسي المكسور إلى شاهد، وتصبح الفانيلة المربوطة قيدًا رمزيًا لقرارات داخلية لم تنضج… لكنها آذت.
أجادت الكاتبة اللعب على التوتر الشعوري:
• صدمة الاستيقاظ
• الحوارات العبثية ذات الطابع الكوني
• والبساطة الساخرة التي تخفي فلسفة عميقة
كلها جعلت النص أشبه بمرافعة أدبية عن الإنسان حين يضع نهاية لحكايته قبل الأوان.
المكان لم يكن مستشفى نفسيًا ولا سجنًا، بل صورة ميتافيزيقية للعقل حين يُحاكم نفسه.
أما “الفرصة الثانية”، فهي الطوق الذي نتمسك به جميعًا… حتى حين ننسى أننا طلبناه.
“الدهاليز” قصة تُقرأ أكثر من مرة…
لأنها ليست عن يوسف وحده، بل عنّا جميعًا، في لحظة ضعف… لحظة لو تأملناها جيدًا، لربما أنقذتنا.
فالإنسان، في النهاية، لا يُختبر حين يسقط… بل حين يُمنح فرصة النهوض، دون أن يتذكّر أنه سقط.
وفي عالمٍ يزداد فيه الحديث عن الانتحار كخلاص، تأتي هذه القصة لتقول – بأدبٍ رفيع – إن التوقف لحظة واحدة كفيلٌ بفتح باب العودة… حتى لو أغلقه العقل.