المقالات

من الضحية إلى المعتدي: كيف خسرَت إسرائيل معركة الرأي العام الغربي بعد 7 أكتوبر

منذ عقود طويلة اعتادت إسرائيل أن تكسب معارك الدعاية وتأييد الرأي العام الغربي باكتساح واضح، مستفيدة من سردية جاهزة تقدّمها كضحية لمجازر التطهير العرقي النازية وكدولة محاطة بـ”أعداء” يهددون وجودها دائما. غير أنّ أحداث السابع من أكتوبر 2023 قلبت هذه المعادلة رأسًا على عقب، ليس فقط بسبب حجم العنف والدمار في غزة، بل لأن منصات التواصل الاجتماعي، وعلى رأسها “تيك توك”، أفسحت المجال لصوت آخر كي يُسمع: صوت الضحايا.

في السابق كان الإعلام التقليدي الغربي يمارس دور “المرشّح” والمؤطر للرواية، يسلّط الضوء على معاناة الإسرائيليين ويهمل إلى حد كبير معاناة الفلسطينيين. لكن مع بثّ مقاطع حيّة ومباشرة من غزة، أصبحت صورة الواقع مختلفة تمامًا. مشاهد الأطفال تحت الأنقاض، منع المساعدات الإنسانية، التجويع الممنهج، ضرب وقصف قوافل المساعدات، الأطباء المنهكين في المستشفيات المدمّرة، العائلات التي فقدت كل شيء في لحظة؛ من هنا بدأ التحوّل: لم يعد من السهل تصديق رواية “الدفاع عن النفس”، بل بدا المشهد وكأنه عقاب جماعي لشعب بأكمله. كل ذلك وصل إلى ملايين الشباب في أوروبا وأمريكا مباشرة لهواتفهم دون وسيط ودون سياسات تحريرية تحيزية.

جيل الشباب في الغرب، الذي يعيش معظم وقته على منصات التواصل الاجتماعي وخصوصا تيك توك، وجد نفسه أمام حقيقة لا تشبه ما يُبث على القنوات الكبرى. جيل أكثر حساسية لقضايا العدالة وحقوق الإنسان، وأقل ارتباطًا بالروايات والسرديات التاريخية الموروثة، لم يتردد في التعبير عن غضبه. المظاهرات التي عمّت لندن وباريس ونيويورك وواشنطن لم تكن مجرد أعداد كبيرة في الشوارع، بل كانت تعبيرًا عن تحول في الضمير الجمعي بدأ يتشكل بعيدا عن أدوات الدعاية التقليدية.

الجامعات تحولت بدورها إلى ساحات مواجهة فكرية، حيث ارتفعت أصوات الطلاب للمطالبة بمقاطعة الشركات الداعمة لإسرائيل. هذا المشهد كان كافيًا ليكشف عن فجوة عميقة بين الحكومات الغربية التي استمرت في دعم إسرائيل، وبين شعوبها التي باتت ترى فيها قوة متمردة تمارس سياسات لا تختلف عن أنظمة الفصل العنصري في التاريخ الحديث.

الحقيقة التي لم يعد بالإمكان إنكارها هي أن إسرائيل خسرت جزءًا استراتيجيا من التعاطف الشعبي الغربي، وربما لأول مرة بهذا الحجم والوضوح. قد لا يتغير الموقف السياسي الرسمي بين ليلة وضحاها، لكن المزاج الشعبي هو البوصلة التي تحدد اتجاه الحاضر والمستقبل. ومع صعود جيل جديد يرفض ازدواجية المعايير ويصرّ على رؤية الحقيقة بعيونه لا بعدسات الإعلام التقليدي، فإن الرواية الشعبية الفلسطينية وجدت لنفسها مساحة أوسع في الضمير الغربي.

وهذا التحول الشعبي الضاغط والمتنامي أسهم بشكل قوي في التأثير على توجهات وقرارات كثير من القادة السياسيين في الدول الغربية، حيت تغيرت البوصلة من تأييد دائم ومحسوم للمصالح الإسرائيلية في مجلس الأمن والمحافل الدولية الى سلسلة من القرارات التي أعادت رسم التحالفات والمواقف السياسية الدولية، مثل منع تصدير السلاح لإسرائيل، والحشد لتأييد إقامة دولة فلسطينية وغيرها من التحولات غير المعهودة على خارطة السياسة الغربية.

إن ما نشهده اليوم ليس مجرد معركة إعلامية عابرة، بل بداية تحوّل استراتيجي طويل المدى. إسرائيل لم تعد الطرف المحصّن في الوعي الغربي، وفلسطين لم تعد الغائب عن المشهد. كل ذلك تحقق بفضل فضاء رقمي كسر القيود القديمة، وأعاد صياغة سؤال العدالة في قلب الرأي العام العالمي. لقد سقطت الرواية الإسرائيلية في وعي الغرب، وارتفعت الرواية الفلسطينية من تحت الركام؛ وما بين السقوط والنهضة، وُلدت حقيقة جديدة يصعب على أي دعاية أن تمحوها.

د. سالم عريجة

استاذ الإعلام بجامعة أم القرى

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى