الحج شعيرة عظيمة لها مكانة عظيمة في قلوب المسلمين؛ ففيها تتجلى مظاهر وحدة الأمة الإسلامية، حيث يقف المسلمون من مختلف الأعراق واللغات والجنسيات جنبًا إلى جنب، بلباس أبيض بسيط، في أقدس بقاع الأرض، متوجهين إلى الله تعالى بقلب، واحد، وروح واحدة. تختفي في هذه الأيام مظاهر الطبقيات الاجتماعية؛ فلا تستطيع أن تميز بين الوزير والأمير، وبين الغني والفقير.
أيام معدودات، اختلفت فيها ألوان البشر وتوحدت فيها الأماني، في مشهد إنساني فريد تختفي فيه مشكلات الإنسان مع أخيه الإنسان، التي يعيشها يوميًا في أصقاع الأرض. فلا ترى لعرق عن غيره أفضلية، ولا للون البشرة ميزة، ولا للثقافة المختلفة استنكار.
إنه اجتماع لمجموعة من البشر لقبهم المشترك “ضيوف الرحمن”، جاءوا من كل دولة ومدينة وقرية وجزيرة حول العالم، يلبّون نداء إبراهيم عليه السلام، متحملين مشاق السفر والبعد عن الأوطان والأهل، طمعًا في رضا الله ومغفرته. متأملين في ختام الشعيرة أن يعودوا كما ولدتهم أمهاتهم، بصحائف أعمال متجددة مغفورة الذنوب ونقية من الخطايا، كما وعدهم نبيهم صلى الله عليه وسلم بقوله: “من حج فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه.”
هي رحلة يتخلى فيها الإنسان عن حظوظ الدنيا، طمعًا في وعود الآخرة. رحلة تعادل استثمار العمر الذي قد لا يتكرر لغالبية القادمين، وقد تكون الرحلة الأولى والأخيرة. فلا مجال فيها للخطأ أو اللغو أو الضغينة. هي أيام تجتمع فيها جميع المشاعر التي يعرفها البشر: الترقب والقلق قبل السفر للحج، الفرح عند الوصول إلى مكة والمدينة، رهبة النظر إلى الكعبة، الامتنان لنعمة حج البيت، والحزن على وداعه. لحظات تمتزج فيها الدموع بالضحكات، والأماني بالدعوات، والتهاني بالتبريكات، من الوقفة إلى الأعياد.
كل هذا يشكل لمحات من رحلة الحج، التي تتفجر فيها المشاعر وتزيد من إحساس المسؤولية والأمانة لدى كل من أكرمه الله بخدمة ضيوفه. نعم، إنها مكرمة ربانية حين يصطفيك الله لتكون من بين ملايين البشر خادمًا لضيوفه. وأي شرف هذا؟ وأي أمانة؟
خدمة الحجاج ليست مجرد عمل موسمي، بل هي شرف وأمانة عظيمة تحمل في طياتها أجرًا كبيرًا وفرصة متجددة لنا كمواطنين أن نخرج من هذا الحج بأجور توازي الجبال، وبأقل مجهود. فلا تحتقر شيئًا من الأعمال، فقد تكون الابتسامة التي ترسمها على وجهك ويتلقفها الحاج بارتياح كفيلة بتحقيق الوعود في اليوم الموعود. لماذا؟ لأن “ابتسامتك في وجه أخيك صدقة.” فكم من الحجاج ستقابل؟ وكم من الخدمات ستقدم؟ اجعل هذا العمل استثمارًا خاصًا بك، تنميه في كل لحظة تقابل فيها ضيفًا من ضيوف الرحمن، وفي كل خطوة تخطوها، فقد اجتمع لديك شرف العمل، مع شرف المكان، وحرمة الزمان، في لحظات يكون فيها الجميع مأجورًا: خادمين ومخدومين.
تلك الابتسامة، التي تحمل في طياتها سحرًا وفضلًا ممتدًا، تعكس صورة المواطن السعودي الحقيقية في ترحيبه بضيوف المملكة. تلك البلاد التي سخّرت لضيوفها كل السبل والإمكانات والجهود لتكون رحلتهم محفورة ومخلدة في الذاكرة. صورة عن وطن مضياف، بذل الغالي والنفيس لخدمته. وطن عمل ليجعل تلك البقاع المباركة من أهم أولوياته، يحشد لها الحشود، ويوفر لها الإمكانات، ويُوظف فيها التقنيات. ولا تخلو الذكرى من شعب بشوش، رسالته الابتسامة، وروحه الأمانة، وخدمته لضيف الرحمن ديانة.
إن خدمة ضيوف الرحمن والإخلاص فيها ليست فقط واجبًا دينيًا، بل هي مهمة وطنية؛ في هذه الأرض، مليكها تشرف أن يكون اسمه “خادم الحرمين الشريفين”، وتشرف شعبها بهذا اللقب، فقد لا يتذكر الحاج الأسماء، لكنه بلا شك سيتذكر الابتسامة، وسيتذكر ذلك السعودي الذي جعل أهم رحلة في حياته خالدة، ينقلها جيلًا بعد جيل، تشهد على طهر المكان و أثر الإنسان.

0