هل تُصدق أن رئيس دولة كبرى يعيش في منزل متواضع مثل بقية سكان دولته، بلا حرس ولا جنود، ويُصلح بيته بنفسه، وتساعده زوجته في ذلك؟
إن لم تُصدق، فإليك ما هو أغرب من ذلك!
فرئيس هذه الدولة يقبل دعوى وشكوى رجل غريب من دولة أخرى، وجنس وأصل ودين مختلف، ضد أحد كبار القادة والمسؤولين في دولته!
إن كنت تظن أن ذلك من نسج الخيال، فهناك ما هو أعجب.
فهذا المسؤول الكبير يقف في محاكمة داخل دولته، وخصومه في المحكمة رجال غرباء من دولة أخرى، وجنس مختلف، بل ودين آخر!
إن لم تتصور ذلك وتقتنع به، فخذ ما هو أدهى وأعجب:
القاضي الذي تم اختياره لهذه المحاكمة يصدر حكمًا بصالح هؤلاء الغرباء ضد هذا القائد الكبير!
وإن لم تُصدق كل ما سبق، فإليك الخاتمة الأعجب والأندر في التاريخ:
فقد أصدر القاضي حكمًا بانسحاب جيش دولته من إحدى الدول التي دخلها وفتحها وانتصر فيها، ونُفِّذ الحكم فورًا، فانسحب الجيش كاملًا بعدته وعتاده تنفيذًا لحكم القضاء!
إن هذا يا سادة ليس فيلمًا خياليًا، ولا قصة من قصص الأساطير، بل هو تاريخ واقعي حدث بالفعل.
ولم تقع هذه الحادثة في أمريكا أو أوروبا، ولا في محكمة العدل الدولية في لاهاي، بل وقعت في عهد الخليفة الأموي العادل عمر بن عبدالعزيز.
ففي عهده، فتح القائد المسلم العظيم قتيبة بن مسلم مدينة سمرقند قبل أن يدعو أهلها إلى الإسلام أو الجزية ويمهلهم ثلاثة أيام كعادة المسلمين، ثم يبدأ القتال.
فلما علم أهل سمرقند أن هذا مخالف لأحكام الإسلام، كتب كهنتها رسالة إلى الخليفة عمر بن عبدالعزيز، وأرسلوها مع أحد أهل سمرقند.
وعندما وصل حامل الرسالة إلى دمشق، بحث عن دار أمير المؤمنين، فوجدها دارًا من طين، ورآه يسدّ ثُلمة فيها بيده، بينما كانت زوجته تناوله الطين.
قدّم له الرسالة، فقرأها الخليفة عمر، ثم كتب على ظهرها:
“من عبد الله عمر بن عبدالعزيز إلى عامله في سمرقند، أن انصب قاضيًا ينظر فيما ذكروا.”
ثم ختمها وأرسلها.
فلما وصلت الرسالة إلى عامل عمر على سمرقند، نصّب القاضي جميع بن حاضر الباجي لينظر في الشكوى.
وفي يوم القضاء، قال أهل سمرقند: “اجتاحنا قتيبة ولم يدعُنا إلى الإسلام، ولم يمهلنا لنفكر في أمرنا.”
فسأل القاضي خليفة قتيبة – إذ كان قتيبة قد تُوفي رحمه الله – فقال: “لقد كانت أرضهم خصبة وواسعة، فخشي قتيبة إن أذنهم أن يتحصنوا عليه.”
فقال القاضي: “لقد خرجنا مجاهدين في سبيل الله، وما خرجنا فاتحين للأرض بطرًا ولا أشرًا.”
ثم قضى القاضي بإخراج المسلمين من سمرقند، وأن يُعاد فتحها وفقًا لأحكام الإسلام.
وما إن غربت شمس ذلك اليوم، حتى لم يبقَ رجل من الجيش الإسلامي في أرض سمرقند.
خرجوا جميعًا تنفيذًا للحكم، ودعوا أهل المدينة إلى الإسلام أو الجزية أو القتال.
فلما رأى أهل سمرقند هذا النموذج الفريد من العدالة التي تُنفذها الدولة على جيشها وقائدها، قالوا:
“هذه أمة حكمها رحمة ونعمة.”
فدخل أغلبهم في الإسلام طواعية، وفُرضت الجزية على القلة الباقية.
ما أعظم ديننا الإسلامي، وما أروع قيمه ومبادئه وعدالته وسماحته، وما أبهى تاريخنا المجيد الذي يدعو إلى الفخر والاعتزاز






