في قلب الجنوب،و على سفوح «الدركة» بمرتفعات الباحة، حيث يمتزج الضباب برائحة الطين، وتغني السنابل أنشودة الفجر، وُلد شاعر لا يُشبه إلا نفسه. وُلد عبد الواحد بن سعود ، لا كصوت عابر، بل كفكرةٍ ناضجة تنمو على مهل، وتتهيأ لتغدو صدى وطنٍ وهمّ أمة.
في طفولته، شارك أسرته حياة الريف: رعيًا وغرسًا، تعبًا وحنينًا… هناك تعلم أن الجبال تحفظ السر، وأن الأرض لا تعطي إلا لمن يبذر الصدق. كان والده، الشاعر سعود بن سحبان يرحمه الله أول مدرسة شعرية تشبعت بها أذنه، فكبر وبين ضلوعه مفردة تنبض، وبيت شعر يولد مع كل خفقة قلب ورمشة عين،
وما ان بلغ الثانية عشرة من عمره حتى دخل ساحات العرضة، لا مستعرضًا بل متحديًا، لا هاويًا بل حاملاً رسالة. قال كلمته في حضرة الكبار، وارتفع صوته بين القوافي، فالتفتت إليه المنصات والجماهير، وأيقنت أن الشعر كالماء، لا يُسأل عن عمره ما دام عذبًا.
ولأن الموهبة لا تكفي وحدها، مضى في طريق العلم بتؤدة وامتياز. تخرج من كلية المعلمين بالطائف عام 1993م، ثم حصل على ماجستير الإدارة التربوية من جامعةأم القرى، وتُوّج مساره العلمي بـالدكتوراه بمرتبة الشرف الأولى عام 2010م. وما بين السبورة والقصيدة، كان يرى في الرياضيات انضباطًا، وفي الشعر انطلاقًا، وفي كليهما رسالة.
لكن ذروة فرادته تمثلت في تحويل وجهة شعر العرضة وغير وجه القوافي شكلا ومضمونا
ففي زمنٍ كان كثيرٌ من الشعراء غارقين في المديح والتبجيل و المفاخرة، اختار عبد الواحد أن يذهب بالشعر إلى حيث يجب أن يكون .. لسانًا للمجتمع، وضميرًا للناس، ومنبرًا لقضاياهم.
وكان المجتمع حاضرا في وجدان الشاعروفي حروف قوافيه
كتب عن البطالة، عن غلاء المعيشة، عن هموم التعليم والصحة والسكن، والطرق وعن الفساد الإداري وعن القيم الضائعة. كان يقول ما يجب أن يُقال، وكل ما يُرضي المتفرج أو يُطرب السامع.
لكنه حتى في أقسى الانتقادات، لم ينجر إلى الإسفاف، بل التزم ببلاغة المعنى، ورصانة الفكرة، ونقاء العبارة وحسه الوطني الرفيع
شاعرٌ يفكر كما يُبدع، ويمارس النقد بقلب المربي، لا بمنطق الخصومة..
بعيدًا عن الضوء، من يعرف عبد الواحد الزهراني عن قرب، يعرف رجلًا كريمًا بطبعه، شهمًا في مواقفه، وفيًّا لأصدقائه، هادئًا في ردوده، حازمًا في مبادئه.
هو ذاك الذي يُطربك في ميدان المحاورة، ويأسرك بالحديث في المجالس ،ثم يبهرك في مواقف الوفاء، ويتجلى في قاعات العلم ومدرجات الجامعة.
لم يكن صوتًا عابرًا في الساحة، بل شخصية متوازنة جمعت بين الهيبة والتواضع، وبين الصرامة في الحق، واللطف في العشرة. شاعر لا تكسره المنابر، ولا تغويه الأضواء، لأنه ببساطة… يعرف قيمة الكلمة، ويعرف أكثر متى يصمت.ومتى وكيف ينطق..
وحين نجتمع اليوم لنحتفي بهذه القامة، فإننا لا نكرّم شاعرًا فقط، بل نكرّم مدرسة.
نكرّم من جعل من الشعر رسالة، ومن القلم موقفًا، ومن التعليم منصة إصلاح، ومن الأخلاق عنوانًا لا يتبدل.
نكرّم عبد الواحد الزهراني، سادن الحرف وصوت الجبل وعقل المدينة، شاعر الضمير، وضمير الوطن. ..وأستاذ الفكروالمنطق
تحيةٌ تُرفع من صدورٍ امتلأت إعجابًا،
وأكفٌ تُصفق لسنوات من الإبداع،
ودعاءٌ صادق أن يديم الله عليه الصحة، والعافية، والقبول.
والشكر موصول للشيخ فيصل الخاتم وللشيخ عبد العزيز بن رقوش ولكافّة الأوفياء في لجنة التكريم وعلى رأسهم الزميل علي المقبلي وزملائه المبدعين على جهودهم المضنية وتنظيمهم الرائع ..
دمتَ مبدعًا، ودامت القوافي ناطقة باسمك يا ابا متعب.






