المقالات

ثقافة الاعتذار وتصحيح العلاقات

يتساءل كثير من الناس عن قيمة الاعتذار ودوره في معالجة الأخطاء وتصحيح العلاقات، وهل هو سلوك لازم أم أنه ترف زائد لا معنى له؟ والحقيقة أن من مسلّمات الحياة وجود الخطأ، وأن من طبيعة التفاعلات الاجتماعية أن تنشأ الأخطاء نتيجةً لاختلاف وجهات النظر أحيانًا، وسوء فهم المقصود أحيانًا أخرى، حيث تلعب الفروق الفردية بين الناس دورًا هامًا في نشوء الأخطاء وتوسّع الخلافات بينهم.

ويتفاوت موقف الأفراد من الخطأ، فمنهم من يعترف بأخطائه ويقرّ بها لكنه لا يندم ولا يعتذر، ومنهم من يُكابر ويُصرّ ولا يعترف بأخطائه ولا يعتذر، ومنهم من يعترف بأخطائه ويعتذر؛ لكي يمسح ما عَلِق بعلاقاته من صور قاتمة، ويعيد ترتيب هذه العلاقات بشكلٍ صحيح.

وهذا الصنف من العقلاء لديهم قناعة راسخة بأن الاعتذار أحد القيم الهامة التي تشكّل الشخصية السوية المتزنة، كما أن ممارسته باستمرار تعبّر عن ثقافةٍ منبعها طيب النفس، وصفاء الروح، وصحوة الضمير.

ولأهمية الاعتذار وقيمته العالية في العلاقات، نجد في القرآن والسنة ما يؤكّد عليه ويبيّن مكانته؛ فقد علّم النبي ﷺ أصحابه هذه الثقافة وأدّبهم على ممارستها، حين أطلق عبارته الشهيرة في قصة خصومة أبي بكر وعمر رضي الله عنهما، فقال بعد أن عاتب عمر رضي الله عنه لعدم قبوله الاعتذار:
«فهل أنتم تاركوا لي صاحبي؟»
والمعنى أن رفض الاعتذار يعدّ ضربًا من الأذى النفسي للمخطئ، فإذا جاء معتذرًا لا ينبغي ردّه، بل يجب قبوله، وأخذ العفو والصفح، والمبادرة بتصحيح العلاقة. فهذه النتيجة المميزة للاعتذار تعمل على الحفاظ على الأواصر والصلات والصداقات والمصاحبة، وتقلّل فرص النفوذ الشيطاني لتخريب العلاقات بين الناس والتحريش بينهم.

ومن جانبٍ آخر، يرى بعض الناس أن الاعتذار يُعدّ ضربًا من الضعف والهوان، وينقص من قدر المعتذر ويذهب هيبته. وتلك النظرة استمدّها أصحابها من الشدة والتصلّب في المواقف والآراء والقرارات، الأمر الذي أوصلهم إلى نسف قيمة الاعتذار، وحذفه كليًا من قواميس الحياة. ولذلك يعيش أصحاب هذا الاتجاه عزلةً تدريجيةً، إلى أن يفضي بهم الأمر إلى العزلة التامة، ويهجرهم الناس اتقاءً لشرورهم وتعنتهم.

وحين يتمّ تصنيف القيم والصفات الإنسانية، يقع الاعتذار في أولها، دليلًا على أهميته، وأنه من صفات الكمال وجمال الطباع، ومن الأمور التي ترفع قيمة المعتذر لا تنقصها، وتؤلف القلوب، وتصحّح مسار العلاقات. ولذا قالت العرب قديمًا: «الاعتذار من شيم الكرام»؛ أي أن الاعتذار خُلقُ الأشخاص الكرماء بعطائهم وتعاملهم.

فأيّ إنسان قد يكون عُرضةً للخطأ والزلل بطبيعته البشرية، والاعتذار يمحو هذا الزلل، ويُحقّق المودة والمحبة وصفاء العلاقة. فكم هو جديرٌ بنا أن نُرغم أنفسنا على الاعتذار عطاءً وقبولًا، وأن نهتم بتعلّم ثقافته وطريقة تفعيله في علاقاتنا، وكم هو جميل أن نتعلّم التواضع عند الخطأ، وأن ندع الغطرسة والمكابرة والاستبداد؛ فإن الاعتذار رضا للنفس وللآخرين، وقبل ذلك رضا لربّ العالمين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى