المقالات

الاحتياط في معرفة الهياط

في ظل اللهاث المادي والتنافس على حطام الدنيا، وبروز طبقاتٍ عُرفت بالثراء المفاجئ، بسبب التعويضات المالية العالية أو ممن وُلد وفي فمه ملعقة من ذهب، أو ضمن دهاقنة المهن الجديدة، أو رواد غسيل الأموال، برزت على السطح نماذج غريبة (تزبّبوا قبل أن يتحصرموا)، وغدوا يقدّمون أنفسهم رموزًا اجتماعية تحت مظاهر الاستعراض المفعم بالتفاخر والرياء والتبجّح، مقرونة بألقابٍ رنانة مثل: الشيخ، ورجل الأعمال، أو أحد المشاهير — (كالهرّ يحكي انتفاخًا زورة الأسد).

وجميعهم –إلا من رحم الله– ممّن يبحث عن محلٍ من الإعراب، فظهرت على الساحة الاجتماعية والإعلامية نماذج تتّسم بتصرّفات رعناء وممارسات حمقاء تعبّر عن الشعور بالنقص، وغايتها لفت الأنظار إليها بعد أن عاش أصحابها زمنًا في طيّ النكرات المهمّشة. فبرزوا على حين غرّة في صفحات المجتمع المنظور والمسموع والمقروء، وتلك ظاهرة لا ينبغي أن تمر دون وضعها تحت مجهر الفحص من قِبل علماء الشريعة والاجتماع والنفس والسياسة والاقتصاد، والبحث بعمقٍ في جذورها وعِللها وظواهرها وانعكاساتها على الحياة برمّتها.

ويأتي في طليعة تلك الظواهر ما يُعرف بـ “الهياط”، التي طفحت على السطح الاجتماعي بصورٍ وتصرفاتٍ نابية، ولا مناص من خطةٍ محكمةٍ لمحاصرتها والقضاء عليها، إذ صنعت فراغًا هائلًا بين الواقع والوهم، وزحزحت ذوي القدوات الصالحة عن دورهم المأمول، ورسّخت ثقافة الاستهلاك والبطالة، وفتحت السلبية على مصراعيها .

ويمكن انتزاع مادة الهياط وصبغتها اللغوية من الجذر العربي الأصيل، وتعني الضجيج والجلبة. ورغم أنها بهذا المعنى اللغوي، فقد أُطلقت بالمشاكلة والمناسبة على ظواهر اجتماعية شاذة تتّسع لمعاني التبجّح والغرور والرياء والتفاخر الأجوف، لهثًا وراء الشهرة، خصوصًا ممّن لا يملكون من المفاخر الإنسانية الشريفة شيئًا كالعلم النافع، فيلجأون إلى تضخيم الذات واصطناع الجاه، والتغطية على نقائصهم بما يلفت الأنظار إليهم — كمن يغسل أيدي ضيوفه بدهن العود، أو يراقص زوجته على الملأ، أو يستعرض ثراءه — ليُثير الجلبة حول شخصيته.

والعجيب أن الهياط اتخذ مساراتٍ متعددة حتى دخل عالم “البزنس”، فانتعش سوق بيع القصائد والشيلات، وأُسبغ على النكرات تاريخٌ زائف من الألقاب والأكاذيب. فبرزت دُمى محنطة بالرياء والتفيهق والغرور، كان أثرها جارفًا على نفوس السذّج والبسطاء الذين انساقوا وراء الزيف، بينما لاذ الأخيار بالصمت، وتوارى أصحاب المروءة الذين جمعوا بين الأصالة والإخلاص.

وهذا بدوره كشف عوار الانحرافات الأخلاقية والجهل المركّب والبسيط، وورّط عشّاق الأضواء إلى اتخاذ هؤلاء المهايطين قدواتٍ لهم دون تمحيص أو تقويم، مما زاد من تراكمات الخواء الاجتماعي الخطير.

ومن هنا، تتوجه المسؤولية إلى قادة الفكر والوعي والأدب الأصيل لإعادة الاعتبار للقدوات الصالحة المنضبطة، التي يجب أن تُبرز للأجيال في الحاضر والمستقبل، قبل أن تتحقق النبوءة التحذيرية في حديث رسول الله ﷺ:

«تُقبض الأمانة من قلوب الرجال، فيصبح الناس يتبايعون فلا يكاد أحد يؤدي الأمانة، فيقال: إن في بني فلان رجلًا أمينًا، ويقال للرجل: ما أعقله، وما أظرفه، وما أجلده، وما في قلبه مثقال ذرةٍ من إيمان.» (رواه البخاري).

وأغلب المهايطين –إلا من رحم الله– لا علمَ لهم بالكتاب والسنة.

برزَ المهايطُ خِسَّةً وثبورَا
وبدا كذوبًا بالرياءِ دليلا

لا يرعوي غيًّا وسوءَ طويّةٍ
بختالِ سيرًا غدوةً وأصيلا

طبعُ الدناءةِ لاصقٌ بجبينِهِ
ووسومُ ضعفٍ في الحياةِ سبيلا

أعطوا المهايطَ حقَّهُ ونصيبَهُ
لينالَ حقًّا وزنَهُ وقبيلَا

أ.د. غازي غزاي العارضي

استاذ الدعوة والثقافة بجامعة الاسلامية وجامعة طيبة سابقا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى