عام

هندسة اللوجستيات: حين تتحرك الفكرة بسرعة الاقتصاد

المقال التاسع في سلسلة هندسة الرؤية

في عالمٍ تتسارع فيه الخطوات، وتتنافس فيه الأمم على الزمن قبل المكان،
تتحول اللوجستيات إلى هندسةٍ تنظم الإيقاع الوطني وتضبط نبض الاقتصاد.
هي التي تجعل البضاعة تصل في لحظتها، والموارد تتحرك بانسجامٍ دقيق، فيعمل الوطن كما يعمل القلب حين ينبض بثقةٍ وانتظام.

الهندسة اللوجستية تمثل العقل الذي يدير تدفق المواد والمعلومات والطاقة في منظومةٍ واحدةٍ مترابطة.
دور المهندس الصناعي فيها يبدأ من تصميم المنظومة التي تولّد الحركة وتُحافظ على توازنها.
يرسم شبكة الربط بين المصانع والموانئ والمستودعات، ويوازن بين التكلفة والزمن والموقع في معادلاتٍ تضمن كفاءة الانسياب.
وعندما تتجمع هذه العناصر في نظامٍ واحدٍ قابلٍ للقياس والتطوير، يتولد الجهاز العصبي للاقتصاد الذي ينقل القرار من مركزه إلى أطرافه، ويحوّل البيانات إلى أداءٍ واقعيٍ يُحافظ على انتظام الدورة الاقتصادية.

يرتكز هذا المجال على أدوات الهندسة الصناعية في أعمق صورها:
بحوث العمليات، النمذجة، المحاكاة، وتحليل الأنظمة المعقدة.
المخزون يُدار كعنصرٍ متحركٍ في سلسلةٍ حية، والمستودع يتحول إلى عقدةٍ ذكيةٍ تتفاعل مع المعلومة في لحظتها.
إدارة سلاسل الإمداد في كليات الأعمال تركز على العلاقات التجارية وتنظيم السوق، أما الهندسة اللوجستية فتركّز على تصميم النظام التشغيلي الذي يجعل هذه العلاقات تعمل بانسجامٍ وتحكمٍ دقيق.
فالإدارة تُعنى بمتابعة المخرجات وتقييمها، والهندسة تُعنى ببناء المنهج الذي تُنتَج منه تلك المخرجات.

وتنعكس هذه الفلسفة في مؤسساتٍ عالميةٍ رائدة.
في شركات التوصيل، تُبنى المسارات بخوارزمياتٍ تحسب الوقت والوقود والمسافة معًا.
وفي شركات الطيران، تتحول الجداول الزمنية إلى نظمٍ ذكيةٍ تُعيد توزيع الموارد والرحلات يوميًا.
تُبنى هذه النماذج بجهد المهندس الصناعي الذي يوظف الرياضيات والإدارة والاقتصاد في صياغة خوارزمياتٍ دقيقةٍ تصنع القرار وتُعيد ضبطه وفق المعطيات المتغيرة.

ومع تطور مفهوم الكفاءة في الصناعة الحديثة، برزت اللوجستيات العكسية التي تُعنى بحركة المنتج بعد البيع.
هنا يُعاد تصميم المسار من النهاية إلى البداية،
حيث تُدار عمليات الاسترجاع وإعادة التدوير والتجديد ضمن دورةٍ إنتاجيةٍ جديدة.
هذه المنظومة تشكّل الجسر الحقيقي نحو الاقتصاد الدائري، إذ تجعل الفائض موردًا جديدًا، وتحوّل ما كان يُعدّ نفايات إلى قيمةٍ إنتاجيةٍ مضافة.
بهذا الفكر، تصبح الهندسة اللوجستية أداةً محوريةً للاستدامة الاقتصادية والبيئية، وتضمن أن تكون دورة الإنتاج دائرةً لا تنكسر.

ويمتد هذا الفكر من حركة البضائع إلى حركة الطاقة ذاتها.
في ظل التحول الوطني نحو الطاقة المتجددة، أصبحت سلاسل توريد الطاقة الشمسية ميدانًا متقدمًا لتطبيق الفكر اللوجستي.
وفي هذا الإطار، جاءت أطروحة الدكتوراه للدكتور ناصر محمد الغامدي حول سلاسل توريد الطاقة الشمسية الكهروضوئية في المملكة، مركزةً على تقييم جاهزيتها لدعم التوسع المستهدف في مشاريع الطاقة المتجددة.
قدّم فيها إطارًا متكاملًا يربط التصنيع المحلي بالمخزون الاستراتيجي وخطوط النقل والتوزيع، وأنشأ نموذجًا تحليليًا يُحدّد المواقع المثلى للمصانع والمستودعات،
ويقيس التكلفة والزمن لضمان كفاءة الانتشار الوطني لمشاريع الطاقة.
وتضمّنت الأطروحة تنسيقًا مؤسسيًا بين الجهات الحكومية المعنية بقطاع الطاقة المتجددة،
ليتحول التعدد الإداري إلى منظومةٍ واحدةٍ متكاملةٍ تدير القرار بكفاءةٍ مشتركة.
هذه الرؤية البحثية تُجسّد جوهر اللوجستيات الوطنية كمنظومةٍ للأمن الاقتصادي والطاقي، وتعكس التحول الفكري في المملكة نحو التكامل والتخطيط الاستباقي الذي يصوغ المستقبل بوعيٍ هندسيٍ متكامل.

المملكة اليوم في موقعٍ لوجستيٍ استثنائي.
موقعها الجغرافي بين ثلاث قارات جعل منها محورًا طبيعيًا لحركة التجارة والطاقة في العالم.
وخلال العقد الأخير، تقدمت المملكة في مؤشر الأداء اللوجستي من خارج المراتب الخمسين إلى مشارف العشرين، بفضل التكامل بين الموانئ والسكك الحديدية والمطارات.
هذا التقدم شمل تطوير البنية التحتية وبناء عقلٍ وطنيٍ يرى في المسافة فرصةً وفي الزمن قيمةً.
برامج تطوير الصناعة الوطنية والخدمات اللوجستية (ندلب) حولت هذا الفكر إلى منظومةٍ تشغيليةٍ تربط الصناعة بالطاقة، والزراعة بالتجارة، والموانئ بالمصانع في شبكةٍ واحدةٍ تنبض بإيقاعٍ وطنيٍ متزن.

تُعيد الهندسة اللوجستية تعريف الكفاءة في الاقتصاد الحديث.
فكل دقيقةٍ من التأخير تُحسب كتكلفةٍ على النظام،
وكل حركةٍ محسوبةٌ بما تستهلكه من جهدٍ وطاقةٍ ومعلومة.
ومع دخول الذكاء الاصطناعي، أصبحت المنظومات قادرةً على التعلم الذاتي، تتنبأ بالطلب قبل وقوعه، وتعيد جدولة الشحن والتوزيع لحظيًا لتفادي التعطل والهدر.
بهذا الفكر تتحول اللوجستيات إلى مرآةٍ حيةٍ للاقتصاد، وتصبح مقياسًا حقيقيًا لقوة الدولة في إدارة مواردها ووقتها ومعرفتها.

وفي المشاريع المستقبلية مثل نيوم وأوكساغون،
تُصمم المدن الذكية على أساسٍ لوجستيٍ متكاملٍ يجعل النقل والطاقة والتخزين جزءًا من نسيجها الهندسي.
المهندس الصناعي هنا يخطط لمسار المركبة ذاتية القيادة، ويحسب حركة الطائرات المسيرة لتوصيل البضائع، ويعيد تصميم المستودعات الرأسية داخل المدن لتقليل المسافات واستهلاك الطاقة.
بهذا الفكر تصبح اللوجستيات علمًا يربط البنية التحتية بالذكاء الصناعي، ويجعل المدينة تعمل كمنظومةٍ واعيةٍ تتعلم وتتكيف مع الإيقاع الاقتصادي في الزمن الحقيقي.

الهندسة اللوجستية في جوهرها وعيٌ بالزمن.
هي التي تُحوّل الدقيقة إلى قرار، والقرار إلى قيمة، والقيمة إلى حياةٍ اقتصاديةٍ متوازنة.
وحين يبلغ الفكر الهندسي هذا النضج، تتسع الدائرة لتشمل الإنسان نفسه.
ففي كل منظومةٍ لوجستيةٍ متقنة، يُقاس النجاح بالزمن،
وحين يتحول الزمن إلى علاج، يبدأ فصلٌ جديدٌ من الفكر الهندسي، ينتقل فيه المفهوم من الميناء إلى غرفة العمليات، ويتحول وعي الصناعة إلى هندسةٍ للرعاية.
ومن هنا تبدأ هندسة الرعاية الصحية، حيث يُقاس الوقت بالحياة، وتُقاس الكفاءة بالرحمة،
ويصبح التنظيم علمًا يخدم الإنسان كما خدم الصناعة من قبل.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى