المقالات

الحلو، والذي أحلى منه

مقالي المُرّ، والذي أمَرّ منه، حظي بتفاعل كبير. لكن الأصدقاء طالبوني وبقوة قائلين: نريد الحلو يا أبا محمد، فيا كثر المُرّ… والذي أمَرّ منه. وها أنا ألبي طلبهم مع تقديري ومودتي.

تقوم من النوم وأنت منتظر رسالة من صديق لك، طلبت منه سلفة ضرورية، وتطلب مبلغ ثلاثين ألف ريال لتسديد إيجار شقة صعب عليك توفيره نتيجة كثرة المصاريف.

وفعلاً، يرسل صديقك لك:
«أبشر من عيوني، أنت أفضالك علينا ما تُحصى».
(وهذا الرد الحلو الذي تتأمل منه أنه سيحوّل لك المبلغ.)

ثم تأتيك رسالة من نفس الصديق يقول فيها:
«يا صديقي العزيز، هل نسيت أنه قبل عشر سنوات اقترضتُ منك مبلغ 50 ألف ريال؟ وأنك لكرم خلقك لم تسأل عنها ولا مرة؟ ممكن نسيت ولم تعد تذكرها (وهذا الحلو)، وممكن تناسيت لأن كرمك يسبق لسانك وقلمك (وهذا اللي أحلى منه).»

ولكن يا صديقي… أنا لم أنسَ. وتيسرت معي بعد حوالي سنة من ذلك التاريخ، لكنني كنت قد بدأت مشروعًا بعد سداد دَيني من خلال ما أقرضتني إياه من مال، وضمّرت في نفسي أن مبلغك هو جزء من رأس المال الذي خصصته للمشروع.

وكلما نمت الأرباح، أقول: لا تزال لا تساوي شيئًا من قيمة تفريج همّي عندما أرسلتَ لي المبلغ بلا مَنّة، ولا سؤال: متى أسدد؟
رغم أني أعرف أنه كان مبلغًا عزيزًا عليك، ولكنك لم تُعِزَّه عليّ، يا صديقي.

المهم — أيها الكريم — سنة وراء سنة تنمو تجارتي، وأنا ليس كل سنة بل كل يوم أتذكر معروفك وأستصغر الربح. وكنت أنوي أكمل مبلغ المليون ريال، وهي حصّتكم من الأرباح، ولكن بلغت 972,000 فقط.

تسمح لي أن أتشرف بالمرور على منزلكم العامر بطيبكم، وأقبّل رأسك، وأشكرك على أمرين:

أولهما: أنك أنقذتني من همّي في ذلك الوقت بعدما لم يعرني اهتمامًا حتى أقرب الناس إليّ.
والأمر الثاني: أنك لم ترفع سماعة هاتفك ولا مرة، وعندما تطور الجوال وصارت هناك الرسائل والواتس، أيضًا لم ترسل لي نصًا تذكرني فيه بإعادة المبلغ.

وزدت على ذلك — عندما اضطرتك الظروف لتستدين — فطلبت مبلغًا أقل من الذي استدنته منك، سواء كان ذلك لحاجتك فقط أو حتى لا تذكرني بذلك المبلغ.
أي كرم هذا؟

غدًا ألقاك… ويا خوف حالي من غد، وأنا خجل أني قد تأخرت عليك ولم أخبرك بعزمي على استثماره، وذلك حتى أفاجئك بأرباحه.
وأيضًا لأن المبلغ الذي تستحقه — في ظني — لم يبلغ ما أنت أهل له، ولكن عذري أنك تعلم كم تقديرك عندي، والعذر عند كرام الناس مقبول.

وهذا هو الجانب الأروع… والأحلى.
كنت تتمنى حلّ ظرف طارئ بمبلغ بسيط، ولكن جاءك الذي أحلى منه.
والذي أحلى وأحلى: أن المعروف لا يضيع، وأن المكسب ليس فقط المال، بل أنك كسبت صديقًا وفيًّا لا ينسى.

تجمع العيال وأمهم وتخبرهم وتشكر الله، وتسترسل قائلًا: ألم أردد عليكم يوميًا مقولتي: «الله كريم، والدنيا لا تزال بخير»؟

والحلو… أنك ترسل أحد أبنائك للدراسة، وتصرف من دم قلبك على تعليمه. وهو يستحق ومثابر، وكل سنة يبلغك:
«الحمد لله، وشكرًا يا أبي، وأبشرك لقد نجحت إلى السنة التالية.»

وتبشّر أم العيال وإخوته، فيفرحون لأنه الابن البارّ، ومحبوب العائلة كلها.
زد على ذلك أنه يدرس الطب، والأمل في الله ثم به بعد تخرّجه ليكون عونًا وسندًا للأسرة، وخاصة إن أحوالها المادية «على قدّ الحال».

وتأتي سنة الحصاد… وكل فرد من أفراد الأسرة يضع يده على قلبه؛ ما بين أمل أن يجتاز ابنهم هذا الاختبار المفصلي، خاصة أن تخصصه نادر وصعب، إلا على من قيّض الله له سعة البصر والبصيرة.

ثم يحين وقت صمت الانتظار المُرّ — لا، بل إن شاء الله هو الحلو… فالله كريم.

ثم يعزف الجوال أجمل الألحان… اتصال!
وأنت وقلبك لا تُحصى دقاته، ما بين ما تُحضّره لتواسي ابنك لو أبلغك أنه لم يجتز ذلك الامتحان.

وتقول له:
«معليش يا ولدي… أووه، يا ما أخفقنا. تصدق؟ أنا راوحت في التوجيهي ثلاث مرات!»
— طبعًا هذه كذبة بيضاء اخترعتها لتطيّب خاطره.

ثم يأتيك صوته:
«مرحبًا يا أبي!»
وكل العيلة تقاطعه: «نجحت؟!»

فيقول لك:
«ليس نجاحًا يا تاج رأسي…»
لتعصف بك خواطرك، وكأن آلام السنين تجمعت مرة واحدة.

فتقول:
«الحمد لله على كل شيء، المهم أنك بخير.»

فيقول:
«يا أبي… أنا كنت أود أكمل عندما قلت ليس… كنت بقول: ليس نجاحًا فقط، بل نجاحًا استثنائيًا مع مرتبة الشرف الأولى!»

هل هناك أحلى من هذا الحُلى؟
ثمرة السنين جاءت هنية… رائعة… متألقة.

الحياة ليست وقفًا على المُرّ… والذي أمَرّ منه.
لكن هناك رسائل لا تدري إلا وقد هبّت نسائم فضل الله، وهي على رقتها تعصف بكل آلامك وتنحيها جانبًا مجهولًا في حياتك… وكأنها لم تكن.

فقط نتذكر أن رحمة الله وكرمه وسِعَتا كل شيء.

يقول الشافعي:
دَعِ المَقَادِيرَ تَجْرِي فِي أَعِنَّتِهَا
ولَا تَبِيتَنَّ إلَّا خَالِيَ البالِ
مَا بَيْنَ غَمْضَةِ عَيْنٍ وانتِبَاهَتِهَا
يُغَيِّرُ اللهُ مِنْ حَالٍ إلَى حَالِ

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى