المقالات

رفاه الطبية بينبع .. رحلة العطاء التي تجاوزت المسافات

خمسةُ أيامٍ كانت كفيلةً بأن تُقدِّم خدماتها لأكثر من ثلاثة آلاف مستفيدٍ في قلب ينبع النخل. في تلك الأيام، لم تكن المسافة بين الطبيب والمريض سوى مبادرةٍ انبثقت من إيمانٍ صادقٍ بالمسؤولية، تقودها جمعية رفاه الصحية الخيرية بمحافظة ينبع بالشراكة مع جمعية حياة الطبية بمنطقة المدينة المنورة.
جاءت هذه المبادرة امتدادًا عمليًا لأحد أعمدة رؤية السعودية 2030، التي جعلت تمكين القطاع غير الربحي وتعزيز المشاركة المجتمعية في التنمية الصحية من أبرز مستهدفاتها، إذ تجسّد في هذه الحملة نموذجٌ وطنيٌّ متكاملٌ جعل الصحةَ حقًا متاحًا للجميع، والعطاءَ أسلوبَ حياةٍ لا مناسبةً عابرة.
في مطلع نوفمبر 2025، تنفّست ينبع النخل نسائم عافيةٍ مختلفة، حينما امتزج الطبّ بالإنسانية، والعلمُ بالإيثار، في حملةٍ طبيةٍ إنسانيةٍ أعادت تعريف مفهوم المبادرة الخيرية، وجعلت من الميدان منصةً للعطاء لا يعرف حدودًا. انبثقت الفكرة من اجتماع مجلس إدارة جمعية رفاه، حين أجمعت الرؤية على أن تكون الانطلاقة الأولى للجمعية انطلاقةً نوعيةً تمسّ احتياج الإنسان وتعيد له حقَّه في الرعاية القريبة. لم يكن الهدف تقديم علاجٍ مؤقتٍ فحسب، بل الوصول إلى من تعذّر عليهم الوصول إلى الخدمات الصحية التخصصية، بسبب بُعد المسافة أو صعوبة المواصلات أو امتلاء المواعيد في المستشفيات. اتخذت الحملة من مركز الاحتفالات في ينبع النخل مقرًّا لها، فغدت الساحة مستشفىً مصغّرًا ينبض بالحياة. خمسُ عياداتٍ طبيةٍ متنقلة تضمّ تخصصاتٍ دقيقة: القلب، والمخ والأعصاب، والعظام، والنساء والتوليد، والأطفال، والباطنة، والجلدية، والجراحة العامة، وطبّ الأسنان بمختلف فروعه. وإلى جانبها ثلاثُ وحداتٍ طبيةٍ مساندة: صيدليةٌ متكاملة، ومختبرُ فحوصاتٍ ميداني، ووحدةُ أشعةٍ متقدمة؛ لتكتمل منظومة الخدمة وتصل إلى كل مَن قصد المكان طلبًا للعافية. قاد العملَ الميداني أكثر من مئة كادرٍ صحيٍّ متطوع بين طبيبٍ وطبيبةٍ وممرّضٍ وأخصائي، توزّعوا بانضباطٍ على ست لجانٍ ميدانية: اللجنة الطبية، اللجنة الإدارية والإشرافية، اللجنة الإعلامية، لجنة الخدمات اللوجستية التي تولّت الإعاشة والمواصلات والصيانة، لجنة التثقيف والتوعية التي حملت المعرفة إلى العقول قبل الأجساد، ولجنة التطوع الصحي التي جمعت بين الشغف والخبرة والنية الصافية. كان الأداء بينهم متناغمًا على نحوٍ يجعل الفوضى مستحيلة، وكأنهم جسدٌ واحدٌ بنبضٍ واحد. لم تقف الحملة عند حدود العلاج، بل تجاوزته إلى نشر الوعي وبناء السلوك الصحي. فقد قُدّمت محاضراتٌ عن أمراض القلب، ودوراتٌ تدريبية في الإسعافات الأولية والإنعاش القلبي الرئوي، ودوراتٌ توعوية عن الغوص والسلامة البحرية، إلى جانب أركانٍ تثقيفيةٍ قُدّمت فيها الرسائل الصحية بلغةٍ مبسطةٍ قريبةٍ من الناس. أما الأطفال، فكان لهم نصيبٌ من الفرح والمعرفة في البرنامج الترفيهي والتوعوي الخاص بهم، فيما أُقيم ركنٌ للأسر المنتجة دعمًا لتمكينها وتعزيز استدامتها الاقتصادية، في مشهدٍ جمع بين الرعاية والعطاء والتنمية في آنٍ واحد. وخلال خمسة أيامٍ فقط، مرّ في أروقة الحملة أكثرُ من ثلاثة آلاف مراجعٍ ومراجعة. استفاد منهم أكثر من ألفٍ وخمسمائة في عيادة الفرز العام، وثلاثمائة في العيادات التخصصية، ومئتان وخمسون في عيادة العيون، وخمسمائة في عيادة الأسنان، وألفٌ آخرون من خدمات المختبر والأشعة والصيدلية، بينما أُحيلت أكثر من ثلاثين حالةً إلى المستشفيات لإجراء عملياتٍ متقدمةٍ وفحوصاتٍ تخصصية. تلك الأرقام لم تكن مجرّد إحصاءاتٍ جامدة، بل مؤشراتٌ على حاجةٍ واقعيةٍ ورغبةٍ مجتمعيةٍ في الوصول إلى الرعاية، ورسالةٌ صامتةٌ تقول إنَّ العطاء حين يُدار بحكمةٍ يمكن أن يُغيّر خارطة الخدمة الصحية في المناطق الطرفية. أما الداعمين وشركاء النجاح، فكانوا جزءًا من هذه المنظومة المتكاملة: بلدية ينبع النخل، وشركتا سامرف وياسرف، والمستوصفات والصيدليات الأهلية التي شاركت بمبادراتٍ علاجيةٍ مجانيةٍ وفحوصات نظرٍ وصرف نظاراتٍ طبيةٍ لأكثر من مئة مراجع، إلى جانب دعم الهلال الأحمر، والدفاع المدني، والمدارس، والإعلاميين الذين أسهموا في نقل الحدث بروحٍ مخلصةٍ ومسؤوليةٍ وطنية. كانت الحملة مرآةً صافيةً لمعنى الشراكة المجتمعية، حيث تتكامل الجهات وتتوحد الجهود ليبقى الإنسان هو الهدف والغاية. ولأن العطاء حين يُدار بالعلم يُثمر أثرًا مضاعفًا، جاءت حملة «رفاه الطبية» الأكبر في المنطقة من حيث التنظيم، وعدد المستفيدين، وتنوع الخدمات، وتميّز المبادرات. لم يكن التميّز وليد الصدفة، بل ثمرةُ تخطيطٍ واعٍ بدأ منذ اللحظة التي قررت فيها الجمعية أن يكون حضورها مختلفًا في معناها وفي مداها. ومع انطفاء الأضواء في آخر أيام الحملة، بقي الوهج في القلوب. بعض الوجوه غابت، وبعض الأرقام أُغلقت في الجداول، لكن الأثر بقي يتردّد مثل صدى بعيدٍ في ذاكرة المكان.
نجحت «رفاه» في أن تختصر الزمن وتقرّب المسافة، لكن يبقى في عمق المشهد فراغٌ خفيٌّ، يشبه انتظارًا هادئًا لشيءٍ أكبر من حملةٍ، لالتزامٍ مستدامٍ يجعل الخير عادةً لا مناسبة. لتبقى المبادرة فكرةٌ وهدف أن الوصول إلى الإنسان هو جوهر كلّ رسالة، وأنّ المبادرات التي تُبنى على الرحمة والإحسان لا تموت بانتهاء أيامها، بل تُبعث كلّ مرةٍ في شكل أملٍ جديدٍ، وفي طريقٍ جديدٍ، وفي قلبٍ ما زال ينتظر.
كل الشكر والتقدير لجمعية رفاه الصحية الخيرية بمحافظة ينبع على عطائها المتواصل، وجهودها المخلصة في خدمة المجتمع، وعلى ما جسّدته من نموذجٍ راقٍ للمسؤولية المجتمعية والعمل الإنساني المتكامل

عواطف محمد الشليح

مستشارة في التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع والحوكمة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. كلمات الشكر والثناء يا استاذة عواطف لاتوفيكي حقك علي كتابة هذه الاسطر من نور ..ابدعتي في تصوير وتسجيل ورسم معاني التلاحم والانسانية والعطاء التي حققتها الحملة الطبية الخيرية للجمعية الفتية .. خالص الامتنان والتقدير لقلمك وابداعك وحضورك .
    د/عصام الصبياني
    عضو مجلس ادارة رفاه الطبية الخيرية

اترك رداً على د/عصام مكي الصبياني إلغاء الرد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى