السودان بلد لا يمكن التعامل معه كمساحة على الخريطة الإفريقية فحسب، فحضوره الثقافي وتوازنه الاجتماعي وعمقه الحضاري يجتمعون في شخصية وطن يمتلك قدرة استثنائية على البقاء متماسكًا رغم المتغيرات القاسية. الشخصية السودانية نفسها تمثل سر هذا الثبات: عقل موزون، ونَفَس هادئ، وأخلاق راسخة ظلت صامدة أمام كل الظروف التي حاولت أن تختبر صلابة هذا الشعب. المشهد السوداني اليوم يكشف حجم الضغط الذي يعيشه الناس هناك، فالأرقام الصادرة عن الأمم المتحدة خلال عامي 2024 2025 تعبّر عن واقع لا يحتاج إلى تأويل. النزوح تجاوز عشرة ملايين إنسان وفق تحديثات UNHCR بين أبريل ويوليو 2024، وأكثر من خمسة وعشرين مليون شخص اعتمدوا على المساعدات الإنسانية للبقاء بحسب تقارير برنامج الأغذية العالمي في يونيو 2024. الاقتصاد يتراجع مع كل شهر وفق تقديرات البنك الدولي في أبريل وأكتوبر 2024، والقطاع الصحي خرجت معظم منشآته عن الخدمة بعد أن توقفت سبعون في المئة من المستشفيات بحسب WHO في سبتمبر 2024. أما التعليم فقد واجه انهيارًا واسعًا ترك تسعة عشر مليون طفل خارج المدارس وفق UNICEF في أغسطس 2024. هذه الوقائع ليست بيانات باردة، بل انعكاس حي لمشهد يومي يعيشه مجتمع اعتاد أن يواجه الشدة بإصرار. السودان يقف اليوم أمام تراكمات سياسية واقتصادية وعسكرية وصلت إلى نقطة حرجة، حيث يسلب الصراع المسلح قدرة الدولة على الحركة، ويقيد خياراتها في معالجة الأزمة. البنية الزراعية والصناعية التي كانت تمثل أحد أعمدة الاقتصاد تواجه تعطلاً واسعًا، وأزمة الغذاء تتسع في ظل غياب الاستقرار. هذا يحدث في بلد يملك من الموارد ما يجعله لاعبًا اقتصاديًا مؤثرًا لو أُتيح له استقرار سياسي يعيد ترتيب مؤسساته ومساراته. وسط هذه الظروف، يبرز الموقف السعودي بوصفه موقفًا متزنًا وواضحًا. بيانات وزارة الخارجية السعودية خلال 2023 2024 عبّرت عن دعم راسخ لمسار سياسي يوقف التصعيد ويحفظ وحدة السودان. كما واصل مركز الملك سلمان للإغاثة تنفيذ برامجه حتى أواخر 2024، في مؤشر على التزام عملي لا يرتبط بالظرف الآني، بل برؤية تستوعب أهمية السودان في توازن الإقليم. وقد تعزز هذا الدور السعودي بوضوح في نوفمبر 2025، حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب أن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد طلب من الولايات المتحدة التدخل لوقف الحرب في السودان، مشيرًا وفق ما نشرته وكالات الأنباء الدولية إلى أنه بدأ العمل على هذا الملف بعد ثلاثين دقيقة فقط من لقائه به . هذا التحرّك يعكس بوضوح إدراك القيادة السعودية لخطورة الوضع الإنساني في السودان، ويبرهن على دورها الفاعل في دفع المجتمع الدولي نحو مسار يقلل من حدّة الصراع ويعيد للدولة قدرتها على النهوض. المملكة تنظر إلى السودان كعنصر أساسي في أمن المنطقة، وليس بوصفه ملفًا ثانويًا يمكن التعامل معه على فترات متباعدة. العلاقة بين الشعبين امتداد طويل لا يُقرأ من منظور دبلوماسي فقط، فالسودانيون الذين شاركوا في بناء قطاعات التعليم والصحة والعمل في المملكة عبر عقود صاروا جزءًا من نسيجها الاجتماعي. هذا الامتداد يجعل النظرة السعودية للسودان نظرة مسؤولية واحترام، لا مجرد متابعة للأحداث من بعيد. ومن موقعي كمواطنة سعودية أقرأ المشهد بوعي، أرى أن السودان يحتاج قبل كل شيء إلى لحظة استقرار تُعيد للدولة قدرتها على اتخاذ القرار، وتفتح الطريق أمام إعادة بناء المؤسسات، وتمكين الاقتصاد من استعادة عافيته. لدى السودانيين القدرة على تجاوز هذه المرحلة، لكن البيئة السياسية هي الشرط الأول لأي تحول فعلي. إطالة زمن الأزمة سيجعل تداعياتها تتجاوز حدود السودان، وستمتد آثارها إلى الإقليم كله. ما يعيشه السودان اليوم قاسٍ، لكنه لا يلغي الحقيقة الأساسية: هذا البلد يمتلك قوة داخلية قادرة على إعادة تشكيل واقعه. من يعرف السودان يدرك أن ما يجري مرحلة شديدة الوطأة، لكنها ليست النهاية. اللحظة التي يعود فيها السودان إلى موقعه الطبيعي قادمة، وحين تستعيد الدولة أدواتها سيعود هذا البلد إلى دوره الذي لم يفقده يومًا، حتى وإن بدا صامتًا في زمن العاصفة.
0






