المقالات

الشرقيّة… حيٌّ يسكن الذاكرة (1-8)

الشرقيّةُ حيٌّ تتوقدُ فيه الذاكرة كلما عادت الخطى إلى أزقّته القديمة، حيٌّ يمتدّ في القلب كما تمتدّ نسائم الطائف الباردة بين البيوت المتلاصقة. في هذا الحيّ العريق كانت الطفولة تتهادى كنسيمٍ عليل، وتتشبّع برائحة الرمّان والتين الشوكيّ ( البرشومي) والورد الطائفي، فيما تنحني الأشجار الوارفة فوق الجدران الطينية وكأنّها تحرس أسرار الناس وحكاياتهم. كانت الأزقّة تنطق بالحياة، والقلوب صافية تتبادل البسمة واللقمة والذكرى، وتنسج من بساطة الأيام ذلك الحنين الذي يبقى حيًّا مهما طال الزمن.

نشأنا في حيّ لا تُغلق أبوابه إلا عند النوم، ولا يخلو مجلسه الطيني من صوت حكمة أو دندنات حكاية تُروى من جيل إلى جيل. كانت الجلسات المسائية تلمُّ أبناء الحيّ حول الضوء الخافت وتستعيد قصص السوق، ومواسم المطر، ورمضانات زمان، حتى غدت الشرقيّة ذاكرةً مفتوحة لا تُنسى.
تميّز الحيّ بفسيفساء بشرية ثرية؛ إذ سكنته أسر من الجنوب ونجد والحجاز والشمال، إضافة إلى مقيمين من الأوطان العربية اغلبهم من السودان واليمن ومصر والشام. ومن هذا المزيج الإنساني تخلّقت لهجة الطائف الندية، لهجة تجمع السلاسة والحنين وتختلف بنكهتها عن سائر لهجات المملكة.

ومن ملامح بيوت الشرقيّة القديمة «خاجن الدرج» الواقع أسفل السلالم، حيث تُربّى الأغنام التي تخرج صباحًا للرعي في الحواري وتتغذى من البرسيم القادم من دكاكين الأعلاف، امام البازان
ثم تعود مع الغروب إلى مخادعها الصغيرة. وكانت هذه الأغنام جزءًا من الاكتفاء اليومي الذي عاشه الناس ببساطة ورضًا.

وهكذا ظلت الشرقيّة حيًّا يتّسع للجميع، ويُشبه الجميع، ويعلّمهم أنّ الذاكرة الحقيقية لا تُبنى من المباني وحدها، بل من دفء الأماكن وصدق الوجوه وحنين الأيام الأولى

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى