تنطلقُ صباحاتُ الشرقيّة بهدوءٍ يعرف طريقه إلى القلوب، فتنهض الأزقّة قبل أن يكتمل الضوء، وتتشابك خطوات الأهالي في صمتٍ مطمئن. يوقظ الأب أبناءه، ويخرجون نحو محلات التميس ومخابز عمر المقذلي، ويمرّون على عمّ مسعود الفوّال الذي يصنع من القدر رائحةً توقظ الحيّ كلّه. يعود الصغار بإفطارهم على عجل، وتجتمع الأسرة حول صينية القيمات والخبز الساخن في لحظة دفءٍ تُشبه صلاة الصباح في معناها وطمأنينتها.
وتتقدّم الحياة بعدها في مسارٍ يعرف إيقاعه؛ الأب إلى عمله، والأم توزّع وقتها بين شؤون البيت ووقفة محبّة على باب الجارة، والأبناء يعبرون طرقاتهم إلى المدارس التي لم تكن مجرد أبنية، بل أرحامًا للتكوين الأول. هناك، في المغيرة بن شعبة وخالد بن الوليد وسفيان، وفي متوسطة الفاروق وأبي محجن، ثم ثانوية الفيصل وثقيف، تفتّحت فينا بذور القيم، وتعلّمنا كيف تصنع الحروفُ إنسانًا، وكيف يصبح الوعي رفيقًا يلازم العمر كلّه.
ومع انحناءة الشمس نحو المساء، تستعيد شوارع الشرقيّة أنفاسها القديمة. يعود الآباء وقد خفّت عليهم وطأة النهار، ويخرج الأطفال بضحكاتٍ تتوزّع على الأرصفة كحبات مطرٍ صغيرة. يجتمع الشباب حول عشاءٍ متواضع من تميس وجبن كرافت، يمدّونه على قطعة قماش أمام المقهى، فيما يغلي الشاي في براد أبو أربعة على الفحم، كأنه الشعلة التي تجمع الأرواح حولها.
وتزدهر مقاهي الحيّ كأنها محطات نبض، يتجاوز عددها أحد عشر مقهى، لكل واحدٍ منها لغته وذكرياته. بعضها يعرض المسلسلات العربية القديمة، وبعضها يستقبل مسافرًا عابرًا أو عاملًا يبحث عن مأوى، فيُقدَّم له الشاي بكرمٍ يُشبه دفء البيوت. كانت تلك المقاهي ملتقى أجيال، يجلس فيها الجد والحفيد، وتدور النقاشات حول أخبار المدينة، وأسعار السوق، ونتائج مباريات الاهلي والاتحاد.وعكاظ ووج
وحين يهبّ شتاء الطائف، تتحول البيوت إلى مواقد للسكينة. تفوح روائح المرقوق والعريكة من المطابخ، وتطهو الأمهات بقلوبٍ تُضيء ما حولها. كان الشتاء في الشرقيّة فصل دفءٍ داخلي، يجمع الأسرة حول صحنٍ واحد، ويمنح الليل معنى أعمق من مجرد بردٍ يُقاوَم…
بل دفئًا يُعاش


