المقالات

الشرقيّة… حيٌّ يسكن الذاكرة (4–8)

تلتقط الشرقيّة عند الغروب أنفاسها، وتخفّف الشمس من وهجها الأخير، وتُعيد للطرقات هدوءها الذي يشبه نبض أمٍّ تحتضن أبناءها بعد نهار طويل. يجلس رجال الحيّ أمام البيوت، وتتشابك سواليفهم تحت ضوء اللمبات الصفر التي لا تعرف غيابًا، وتتوهّج الأرصفة بحرارةٍ لا تُشعلها الكهرباء…
بل قلوب الناس.
تمرّ بجانب مجلس من مجالس الشرقية، فيسبقك صوت رجلٍ يبتسم بعينه قبل فمه:
«حيّ الله من جانا… يا مرحبا وأهلا».
صوتٌ يحمل طيبة النفوس، وبهاء الكرم، ورائحة القهوة الدافئة.
تتحرّك فناجيل القهوة والشاي بين الأيدي، ويمتدّ معها الخيط الواصل من حكايات السوق إلى شؤون السفر، ومن قصص الاولين إلى ذكريات الطفولة التي لم تغادر الأرواح. تتشكل المجالس بلا موعد؛ الشيب جنب الشباب، والصغار يلتقطون الحكمة قبل أن تقرأها أعينهم في دفاتر المدرسة.
ظلّ حيطة، باب مفتوح، ولمبة متعبة…
كلّها تكفي لتبدأ سهرة تُنسي أهل الحيّ تعب النهار، وتُلبس الوجوه راحةً تُشبه المطر إذا نزل على أرضٍ عطشى.

الشرقية ما كانت حيًّا فقط… كانت مدرسة فضيلة:
فيها الكرم سلوك يومي،
والنخوة عادة متوارثة،
والجار سند،
والكلمة الطيبة قانون
لا يُخالفه أحد.
يمتلي الحيّ بالشباب مثل زخّ مطر، ينعش المكان أينما وقع. عند شارع عكاظ،المشهور يقفون عند راعي الآيسكريم، وتسبق الضحكات نكهات البوظة البسيطة. وفي حارة الحَرَث، تتشكل مجموعات صغيرة تُطلق النكت، والحيّ كلّه يرجع صداها ضحكةً أكبر. وفي أعلى الشارع، ينتظرون صاحبهم اللي دايم يتأخر، وتبدأ السواليف قبل ما يُكملون الحلقة.
يتنفس شارع خالد بن الوليد تجمعات تشبه فسيفساء حيّة؛
وجوه تتغيّر… لكن روح المكان ثابتة.
هناك تولد صداقات تمتد لسنين طويلة،
وتتشكل ذكريات تبقى حتى لو غاب أصحابها عن الشارع.
ما وخلف شارع عكاظ، تنسدل البيوت مثل خيوط نورٍ متصلة، كل بيت يعرف جاره خطوة وخبرًا. ويتوزّع الشباب شرقًا وغربًا، يصنعون ليالي خفيفة على النفس ليالٍ إذا تذكرتها… تبسّم قلبك من غير ما تشعر.
وعلى الطريق الممتد نحو البازان في حيّ البياشة, تلتفّ حلقات السمر تحت السماء، يجلسون على الرصيف، وعلى الحصير، وعلى الذكرى… ويكفيهم دفء بعضهم عن أي ضوء آخر.
تزيد الحركة جنوبًا عند أطراف حارة الحَرَث البيوت والأشجار القديمة هناك تحفظ لعب الصغار، وتخزّن ضحكاتهم بين أغصانها. وقريبًا من حي البخارية,بالشرقية تتسع ساحة تتحول مع الغروب لملعبٍ ومجلسٍ ومسرحٍ مفتوح:
مباراة حارة،سالفة
تُكمل سالفة،
ونكتة تشتعل في الهواء
مثل شرارة نور.
وتنبض مقاهي الحيّ على
جانبي شارع عكاظ:
قهوة الجزيرة وشباب، والخريجي، والزهراني،
أماكن بسيطة… لكن أرواح روّادها ما هي بسيطة.
كراسي حديد، مقاعد خشب، وبراد الشاي الأبيض المزركش حاضر مثل ركن أساسي من السهرة.
تدور فناجيل الشاي، وتُطبخ معها السواليف، وتتناثر النكات مثل قطرات مطر، فيُضيء صوت الشباب المساء أكثر من المصابيح نفسها.
وتقف في أطراف الشرقية ووسطها مدارس البنات بالأرقام: التاسعة،
الثانية عشرة، وغيرها.
بواباتها تفتح كل صباح على خطوات صغيرة تحمل دفاتر وقلوبًا مليانة حلم.
تمشي البنات في طوابير قصيرة، وتمشي الأمهات بجانبهن على دروب يعرفها الحيّ خطوة خطوة.
ومع طلعة الشمس، يتحوّل الطريق لشريانٍ حيّ:
البيوت تطلّ بنوافذها،
الحقائب تلمع،
والحيّ كله يتنفس تعليمًا.
تزرع المدرسة التاسعة أول حرف،
وتنمّي الثانية عشرة أول طموح،
وتترك في ذاكرة المكان رائحة طباشير ما راحت… ولا بتروح.
هذه المدارس ما كانت جدرانًا فقط… كانت محاضن قيم:
الحياء،و الاحترام،و الرفق،
والقلب الطيب…
قيمٌ تربّت بها فتيات الشرقية قبل أن يتعلمن القراءة والكتابة.
ويمضي اليوم… لكن وجوه الشرقية تبقى محفورة في الذاكرة:
من يوقظ العيال لصلاة الفجر،
ومن يوزّع الخبز والفول،
ومن يجمع الزكاة سرًا،
ومن يفصل بكلمة بين المتخاصمين.
كانت الحياة بسيطة… لكنها عالية بالقيم:
الستر قبل العتاب،
والكرم قبل السؤال،
ويد الخير قبل الحاجة.
وتسكن الشرقية أهلها
قبل أن يسكنوها؛
تحفظ خطواتهم،
تلتقط ضحكاتهم،
وتخزّن في جدرانها سرّ ليالٍ
لا تزال تتنفس…
لأن الشرقية مكانٌ ما يشيخ…
بل يكبر في القلب،
كلما مرّ عليه الزمن.

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى