فتحتُ عيني وشنّفتُ سمعي على قراءات والدي – رحمه الله – وهو يقرأ القرآن.
وأذكره عندما كان يقرأ سورة يوسف، وكيف كانت تفيض عيناه بالدمع، وأسمع صوتًا يتحاشى أن يعلو فيُغلِّفه حشرجة لا يكاد يسمعها إلا من كانت مشاعره متوهجة وسمعه حادًا كما كنتُ في تلك الأيام.
ويبدو أننا الآن، حتى على السمع، لم نخلُ من الحسد، فأصبح سمعُنا شيش بيش.
ومن ثم رأيتُ والدي في أحيان أخرى يقرأ القصص الشعبية لسيف بن ذي يزن، والمهلهل، وعنترة وغيرهم.
فكنتُ بعد تركه للكتب أسترق أوقات عدم وجوده لقضاء حاجيات المنزل من سوق الحارة أو انشغاله بالصلاة، وأقرأها حتى أصبحتُ مدمن روايات البطولات.
وكانت روايات الظاهر بيبرس وعنترة عدة أجزاء، ربما بعضها يصل إلى ستة كتب.
وأذكر أن الذي كان لدينا من سيرة الظاهر بيبرس لا يزيد على ثلاثة كتب، وكنتُ أتلهف عندما أقرأها لمعرفة نهاية قصة هذا الفارس أو ذاك.
ومن هنا بدأت مسيرة حبي للقراءة؛ فأصبحتُ أوفّر القروش التي أجمعها بين حينٍ ومين مما يعطيني الوالد، وليس لبخله حاشاه، ولكن كانت الأمور يا دوب يا يدي فُكي حلقي.
وكان لنا جارٌ من خيرة الناس أدبًا وعطفًا وكرمًا، وأحب بكل اعتزاز أن أذكر اسمه؛ لعل أبناءه وأحفاده يقرأون ذلك فيعلمون كم كان والدهم عظيمًا، فعلى قدر أهل العزم تأتي العزائم.
فالأستاذ علي بن حريب، جارنا الأريب الحبيب، وأعتقد أنه كان يعمل في إدارة البريد في مكة، وكان له ولدان: حسن وحسين.
وكانت زوجته أم حسن إنسانة عظيمة، وأنا أستشف – خلسة النظر – إلى مشاعرها؛ فلم أشهد يومًا في عينيها أو محيّاها تعبيرًا للحظة إلا الودّ والعطف الطبيعي، وليس المصطنع العابر.
وكان الرجل الإنسان – رحمه الله – عندما آتي إلى منزله العامر بالحب والعشرة العائلية الدافئة للعب مع ابنيه، يعطيني مثل ما يعطيهما، وكانت أربعة قروش فضة خالصة (وكانت تعني الشيء الكثير لنا).
فكنتُ أتمنّع عن قبولها خجلًا، وأنا في خاطري أتوق أن يُلحّ عليّ حتى لا أفقدها، فقد كانت – على بساطتها – نافذة تسمح لي بإطلالة على بعض مسرح الحياة، وبالذات القراءة وأدواتها: الكتب والصحف، وربما بعض الأقلام والدفاتر.
وكان أبو حسن في الموعد، وكما يقول العرب: «لا يكذب الرائد أهله»، فيعطيني حتى قبل ابنيه.
وكنتُ أجمع هذه القروش وأذهب مشيًا من المعابدة، حارة الجميزة، إلى مكتبة الثقافة بجوار الحرم، العائدة لآل جمال أحمد وصالح جمال كما أذكر.
وأعتقد أن المسافة قد تتجاوز 3–4 كيلومترات ذهابًا ومثلها إيابًا.
واتفقتُ مع من يدير المكتبة أن أستأجر الكتب، حيث أستطيع قراءة عدة كتب على شرط أن أعيدها سليمة، فقد اشتدّ نهمي للقراءة، وربما أقرأ عدة كتب في يوم واحد.



