تناقل الناس عبر الأزمنة مقولة تُعدّ من روائع القول: “الحكمة ضالّة المؤمن”؛ فهو أحقّ بها أينما وجدها، وحيثما وجدها، في كل مكان وزمان.
وفي العصر الذي نعيشه اليوم اتّسعت دائرة الحكمة لاتساع مصادر التعلّم والمعرفة، وانعكس ذلك على المستويات الاجتماعية المختلفة، ومنها الأسرة التي طرأت عليها تغيّرات جذرية في طرق وأساليب التفاعل بين الآباء والأبناء.
ففي الوقت الذي كانت العادة فيه أن يعلّم الآباء أبناءهم الدروس والتجارب والحِكم — باعتبارهم المصدر الأساسي للتربية والمعرفة والتهذيب والنصح — فرضت التغيرات المعاصرة أثرًا مختلفًا لم يكن معهودًا من قبل.
وفي هذه القصة سنكتشف اتجاهًا جديدًا للمعرفة والتعلّم وصناعة الأثر؛ وهو وإن بدا غريبًا، إلا أنه من نتائج الانفتاح الثقافي وتعدّد مصادر التثقيف والتربية بشكل غير مسبوق، حتى أصبح الصغير يمتلك معرفة لا تقلّ عن الكبار، بل قد تتفوّق أحيانًا.
وإليكم هذه القصة التي تُثبت ذلك:
جلستُ يومًا أناقش ابني الصغير محاولًا إقناعه ببعض مفاهيمي، وقلت له:
«طريقتي يا ولدي في الحياة هي كذا وكذا… والتعامل عندي يتسم بالجدية والصدق، ولا وقت للهزل والاستهتار كما تفعلون أنتم أبناء هذا الجيل».
ثم استرسلت قائلاً: «كنا… وكنا… وكنا.»
والابن يستمع إليّ مبتسمًا، يجري مقارنات ذهنية سريعة، ويقيّم الأفكار التي طرحتها عليه.
كان بيده جوال والدته، وفكّر سريعًا في الرد على كلامي ولكن بطريقته المبتكرة.
أجرى اتصالًا من جوال أمه إلى جوالي، وكان هدفه اكتشاف الاسم الذي أُسجّل به والدته في هاتفي.
فظهر الاسم: “أم العيال”.
امتعض الابن من التسمية، وصمت قليلًا، ثم قال لي باقتراح مهذّب:
«أقترح يا أبي أن تغيّر هذا المسمّى.»
ولم يقلها صراحة، لكنه كان يشعر أن الاسم يصوّر والدته كأنها عجوز منبوذة أثقلها الزمن، وكان يخجل من توبيخي على ذلك، لكنه — طفلًا — تجرّأ بفطرته الصافية وقالها بابتسامة: «لو تغيّره يا أبي؟»
فقدّمت له اقتراحاتي — وأنا أشعر بالخجل — وقلت:
«سأسميها: التتبّع الميداني… أو طلبات… أو رئيسة الأسرة!»
فصمت مجددًا، وكأنه أدرك مقصدي من هذه التسميات.
استأذنني أن يتولى المهمة، وطلب جهازي، فناولته إياه.
قام بتعديل الاسم، ثم أعاد إليّ الجوال، وأجرى اتصالًا من جوال والدته… فنظرت إلى الاسم الجديد.
كان: “وصيّة الرسول”.
في تلك اللحظة شعرت بالخوف والتوتر، وأصابتني رهبة وصمت مطبق، ليس لأي سبب سوى أنه أعطاني درسًا لا يُنسى في فن التعامل مع الزوجة.
قدّم لي ابني رسالة مؤثرة أعادتني إلى وصايا الرسول ﷺ بالنساء، وجعلتني أعيد النظر في بعض سلوكياتي التي لا تتفق مع هذا المسمّى العظيم.
وبعد مدة، وفي إحدى جلساتي مع الأصدقاء، رغبتُ أن أنقل لهم التجربة.
سألتهم — مازحًا — عن مسمّيات زوجاتهم في جوالاتهم، فإذا بهم قريبون مما كنت عليه قبل الدرس؛
فهذا يسميها “المقاضي”، وذاك “المطاردات الأسرية”، وآخر “اللهم ألهمني الصبر”!
فضحكت، ثم نقلت لهم اقتراح ابني وتجربتي معه، راجيًا أن يحدث لهم ما أحدثه لي من أثر.
فقد اقتنعوا تمامًا بمسمّى “وصية الرسول”، وقاموا بتغيير الأسماء بالفعل… والله أعلم بحجم التغيير السلوكي الذي طرأ عليهم بعد ذلك.
لقد علّمني هذا الموقف درسًا عميقًا، وأدّبني ونهاني بأقل الكلام وأجمل الطرق، وترك في نفسي أثرًا كبيرًا.
فشكرًا لله على أن ألهمني قبول النقد، وعلّمني التواضع…
وشكرًا لابني تميم، الذي علّمني درسًا لا أنساه.






