في عالمنا المعاصر الذي يشهد تداخلًا متزايدًا بين الحضارات والثقافات، أصبح الحوار بين الشعوب ضرورة ملحة وحتمية في ظل الانفتاح المعولم والمتقدم لتحقيق السلام والتفاهم المشترك. إن ثقافة الاتزان تمثل أحد الركائز الأساسية التي تُمكّن من بناء جسور التواصل والتفاهم بين مختلف الحضارات، حيث تساهم في تجاوز الصراعات والصور النمطية السلبية التي قد تنشأ نتيجة للاختلافات الثقافية والاجتماعية.
قال الله تعالى في كتابه الكريم: “يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ” (الحجرات: 13)
إن الاتزان الثقافي لا يعني فقط الاعتدال في المواقف والأفكار، حيث يتعدى ذلك ليشمل احترام الآخر وتقدير التنوع الثقافي كقيمة إنسانية تعزز من الوعي الجماعي وتدفع نحو التعايش السلمي. في هذا المسار الحيوي، يبرز السؤال حول ماهية مقومات ثقافة الاتزان التي يمكن أن تساهم في تعزيز حوار الحضارات، وكيف يمكن للعالم أن يستفيد من هذه المقومات لبناء مستقبل أكثر استقرارًا وتعاونًا.
للإجابة على هذا السؤال، تتعدد مقومات ثقافة الاتزان في حوار الحضارات، وتتنوع بين القيم الإنسانية والممارسات الاجتماعية التي تتيح فضاءً مفتوحًا للتفاعل البنّاء. من أهم هذه المقومات هو وضوح المفاهيم، إذ إن مصطلحات مثل (الاتزان – الحوار – التسامح – الاحترام) تحمل دلالات مختلفة من ثقافة لأخرى، لذلك لا بد من توضيحها وتحليلها بدقة لضمان فهم مشترك.
ومن مقومات ثقافة الاتزان في حوار الحضارات العدل، قال تعالى: ﴿وَلَا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَىٰ أَلَّا تَعْدِلُوا﴾. فالعدل هو الأساس الذي يقوم عليه أي حوار ناجح بين الشعوب، حيث يجب أن يكون التعامل مع الآخر مبنيًا على العدل دون تحامل أو استعلاء أو ظلم.
ومن مقومات الاتزان في حوار الحضارات التركيز على المشترك الإنساني، مثل حفظ النفس والعدل ومقاومة الظلم ونشر السلام، فكل ذلك يهدف إلى تحويل الحوار إلى تعاون بناء يخدم البشرية جمعاء.
وثقافتنا ثقافة التفاهم والتسامح والسلام. كذلك التفاهم العميق الذي يتطلب الاستماع الفعّال ومحاولة فهم السياقات الثقافية والتاريخية التي تشكل هوية كل حضارة، مما يعزز من قدرة الأطراف على تجاوز سوء الفهم والتوترات. ويأتي، التسامح كقيمة إنسانية عظيمة تتيح قبول الاختلافات وتجاوز الخلافات بمرونة ووعي.
بالإضافة إلى كل ذلك، تؤدي المعرفة دورًا حيويًا في بناء ثقافة الاتزان، إذ أن الاطلاع على ثقافات الآخرين وتاريخهم يساعد في كسر الحواجز النفسية ويشجع على الحوار المفتوح. حيث هنا، لا يمكن إغفال دور التعليم ووسائل الإعلام في نشر هذه القيم، حيث يجب أن تتبنى مناهج تعليمية وبرامج إعلامية تعزز من مفاهيم السلام والتعايش وتدعم الحوار الحضاري. حيث المملكة لديها مركز الملك عبدالعزيز للتواصل الحضاري الذي يدعم قيم التسامح والسلام ويعزز التواصل الهادف . كذك مبادرة “انسجام عالمي” وهي برنامج ثقافي وترفيهي رائد في المملكة، تنظمه وزارة الإعلام والهيئة العامة للترفيه ضمن رؤية 2030 لجودة الحياة. وكذلك لدينا العديد من المبادرات الأخرى.
في ظل العولمة والتحديات التي تواجه العالم مثل التطرف والصراعات، يصبح تبني ثقافة الاتزان ضرورة استراتيجية وحتمية تضمن استقرار المجتمعات وتفتح آفاق التعاون والتنمية المشتركة. إن ثقافة الاتزان هي ممارسة حيوية وأساسية لبناء عالم يتسم بالسلام والتفاهم بين الحضارات المختلفة.
إن مقومات هذه الثقافة من احترام وتفاهم وتسـامح ومعرفة تمثل دعائم لا غنى عنها في مواجهة تحديات العصر الحديث، حيث تتشابك المصالح وتتقاطع الحضارات في فضاء عالمي واحد. إن تعزيز ثقافة الاتزان في حوار الحضارات يتطلب جهودًا مشتركة من الحكومات والمؤسسات التعليمية والإعلامية والمنظمان والمجتمعات المدنية، بهدف خلق بيئة تتيح للحوار أن يثمر عن حلول مستدامة ومشتركة.
فقط من خلال هذا الاتزان يمكن للعالم أن يتحول إلى مكان أكثر عدالة وتعاونًا، حيث تُحترم حقوق الإنسان وتُصان كرامة الشعوب، ويصبح الحوار أداة فعالة لبناء مستقبل مشترك يسوده السلام والازدهار في ظل الانفتاح الحضاري المتقدم.


