المقالات

حجّ الأرواح قبل الأجساد..رحلة ابن جبير أنموذجًا

لا يمضي الإنسان في رحلة الحج، بجسده وحده،
بل يمضي محمولًا بأشواقه العتيقة نحو موطن الحقيقة.
لا تُقاس رحلة الحج بعدد الأميال ولا بطول الطريق، بل بعمق الانعتاق الذي يحدث في الروح.
هناك، حيث الكعبة المشرفة، ينكسر قيد الزمان، وتذوب حدود المكان، ويتجلى النور لمن شاء أن يرى.
لطالما كانت رحلات الحج عبر العصور معابر فلسفية، يتعلم فيها المسافر أن الطريق الحقيقي لا يُقطع بالخطوات، بل بالتحرر من كل ما يقيده عن الوصول.
فمن غبار الأسفار ومشقة الدروب تولد الأرواح أكثر نقاءً، وأكثر التصاقًا بنبعها الأول.
وفي هذا الأفق العالي، تبرز رحلة ابن جبير، الأندلسي الفذّ، الذي غادر غرناطة سنة 578هـ/1183م، لا بحثًا عن معبرٍ جغرافي، بل شوقًا إلى معراج روحي.
عبر البحار، وسلك الصحارى، ومرّ بمدن الشرق، ولكنه كلما سار خطوة كان يغوص أكثر في جوهر المعنى.
لم تكن مشاهداته للطرق والأسواق سوى قشرةٍ لرؤية أعمق: رؤية القلب الذي يفتش عن بابه المفتوح إلى الله.
وحين بلغ مكة المكرمة، دوّن مشاهداته لا بلغة الرحّالة العابر، بل بلغة العارف المتبتل.
رأى الكعبة المشرفة لا كمبنى، بل كمركزٍ تدور حوله قلوب الخلائق.
وصف سقاية زمزم برقة العارفين، ودوّن عن الإطعام والكرم الذي يغمر الحجاج في موسم العتق والعودة.
كان الطواف بالنسبة له تجلّيًا لمشهد إنساني كوني، حيث تتلاشى الفوارق، وتتوحد الأصوات في نداء: “لبيك اللهم لبيك”.
ولم يغفل ابن جبير الجانب الاجتماعي في تدوينه، فقد كانت عيناه ترصدان حركة المجتمعات المتعددة حول الحرم.
وثّق أحوال الناس وتنوع أعراقهم وأزيائهم ولهجاتهم، فأشار إلى الحجاج من بلاد المغرب، ومصر، والشام، واليمن، والهند، وكلهم تجمعهم وحدة القصد رغم اختلاف المشارب.
سجّل بإعجاب نظام سقاية الحجاج، وتنظيم المبيت، والتوزيع العادل للطعام، مشيدًا بأهل مكة وبذلهم في خدمة الزائرين، واصفًا ذلك بأنه “باب من أبواب الجود مفتوح على مصراعيه”.
كما أشار إلى الأوقاف التي خصصها الناس للحجاج، من مساكن ومطاعم ومشارب، وإلى حلقات الذكر والتدريس التي كانت تنعقد في الحرم، حيث يلتقي الناس على مائدة العلم والقرآن.
وكانت مشاهد التراحم والتكافل بين الحجاج وأهل مكة ماثلة في كل سطر، كأنها مرايا تُظهر الجمال الإنساني حين يسكنه الإيمان.
في كل صفحة من رحلته، يكشف ابن جبير عن يقين أن الأرض في الحج تتهيأ لعبورٍ آخر:
من الحضور المادي إلى الحضور النوراني،
من ضيق الكيان إلى فسحة المعنى.
وقد لخّص مشاعره في عبارة خالدة كتبها عند وقوفه أمام الكعبة المشرفة قائلاً:
“وتقدّمنا إلى الكعبة مستلمين مستبشرين، قد طفنا بها، وملأ قلوبنا السرور والابتهاج ببركة ذلك المقام المبارك، فالحمد لله على بلوغ هذه الأمنية العظمى.”
وهكذا، فإن رحلة ابن جبير، كما كل رحلة حج خالصة، ليست عبورًا إلى مكة فقط، بل عبورًا إلى الذات، إلى حقيقة الإنسان حين يتخفف من أثقاله، ويقف حرًا طليقًا أمام حضرة الحق.

الحج، في جوهره الأصفى، هو هجرة من ظاهر الحياة إلى لبّها،
ومن زيف اليوميات إلى صدق الأبدية.
في ظلال الرحلة، تدرك الأرواح أنها لا تسافر عبر الأرض فحسب،
بل تعبر نحو وطنها الأبدي؛
تلبيةً لنداءٍ سكنها منذ الأزل

أ. د. عائض محمد الزهراني

نائب الرئيس لإتحاد الأكاديميين والعلماء العرب

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى