يشير مصطلح الكلام المعسول إلى عذوبة الكلام وتشبيهه بالعسل الذي يخرج من بطون النحل، والذي يأسر القلوب بحلاوته، وتهفو النفوس لتذوقه. كما تشير عبارة الملعقة الفارغة إلى درجة تمويه عالية الإتقان، يُخيَّل معها للشخص أن بها طعامًا، وهي فعليًّا فارغة. فالقاسم المشترك بينهما هو ضياع الوقت دون أي جدوى تُذكَر.
وقد شاع استخدام الكلام المعسول مؤخرًا، وكثر ترديده وتداوله في مجال العلاقات الاجتماعية، تعبيرًا عن حسن انتقاء الكلمات وتزيينها بالأوصاف الجميلة التي تسيطر على مشاعر الآخرين، وتأسر عواطفهم وشجونهم. حيث يمتلك أصحاب الكلام المعسول مجموعة مهارات لفظية تعتمد على القدرة على التخيل، وفصل العقل عن الواقع، ونسج الأحلام الوردية، والتحليق بالتفكير إلى أعالي درجات السعادة، بحيث يكون الكلام ذا مفعولٍ سحريٍّ يسلب إرادة الآخر ويُطيح به، وفقًا لما يريده المتكلم ويسعى إليه من أهداف.
وقد ساعدت التقنيات الحديثة في الاتصال على تطور مهارة الكلام المعسول، بعد اندماج التقنية في حياة الناس، وبخاصة في أوساط الشباب والفتيات، وأُقيمت بناءً على ذلك علاقات خاصة وأخرى متعددة، كنتيجة لفاعلية هذا الكلام وأثره البالغ في السيطرة على مشاعر الطرف الآخر، والإيقاع به – بحسن نية أو بغيرها. وانتشرت على إثر ذلك آلاف القصص التي تحكي معاناة شخصية لضحايا الكلام المعسول، سواء على المستوى العاطفي أو التجاري أو الاجتماعي.
وتضمنت تلك القصص سردًا تفصيليًّا للأحداث، وكيف دفع أطراف العلاقات ثمنًا باهظًا نتيجة الكلام المعسول، وتكاد هذه القصص والحكايات تتكرر بنفس السيناريو، مع اختلافات في بعض فصول القصة وأحداثها وأماكنها. وهنا يتساءل العقلاء: ألا يعتبر الناس من سماع هذه القصص ومتابعتها؟ ولماذا يقعون في نفس الخطأ طالما أن بالإمكان تلافيه؟
ويمكن اختصار الإجابة في تنوع فنون الكلام المعسول، وكثرة أساليبه وطرقه، والحِيَل الممتزجة به. فقد أثّرت قصص الكلام المعسول على سلوك الشباب والفتيات والناس عامة بشكل كبير، لدرجة أن آثارها النفسية يصعب علاجها على المدى القريب، بل تكاد تلك الآثار تلازمهم طوال الحياة، وتنعكس على الحاضر والمستقبل.
وللدلالة على ذلك، ما نراه ونسمعه من ارتفاع في حالات الطلاق بين المتزوجين حديثًا من الفتيات والشباب، وذلك بسبب تعلق عاطفي سابق للزواج، حيث يصطدم الشاب والفتاة بحياة زوجية لا توافق أحلام وامنيات الحب والغرام والكلام المعسول الذي تم قبل الزواج. ومع عدم تعميم هذا السبب، إلا أنه من أقوى الأسباب، إذ يؤدي إلى المقارنات والنفور، وينعكس على فشل الحياة الزوجية.
والملاحظ أن كثرة تكرار هذه القصص جعلها تبدو وكأنها ناتجة عن شبكة ضخمة تمارس فنون الكلام المعسول وتتَصَيّد به الآخرين هنا وهناك، في هذا البلد وذاك. ورغم أن أساليب هذا الكلام قد تختلف، فإن أهدافه وغاياته تتركز غالبًا على تحقيق مصلحة ذاتية، وقلّما يكون الكلام المعسول في خانة الصدق والحقيقة.
وطبقًا لهذا التوسع في مهارات الكلام المعسول، لم يقتصر استخدامه على الحياة الاجتماعية، بل امتد لمجالات التجارة، والتسويق، والإدارة، والسياسة، والعلاقات الدولية، وغيرها. وأصبحت مهارات الكلام المعسول من أهم مهارات المديرين والموظفين والتجار والقادة والسياسيين، إذ تمكّنهم من السيطرة على المواقف، والإقناع، والتفاوض، والحصول على أفضل النتائج. لكنها، في المقابل، قد تكون من أهم أدوات الاحتيال والتلاعب وسلب حقوق الآخرين والعبث بمشاعرهم.
إن الفرق بين الكلم الطيب والكلام المعسول يبدو شاسعًا؛ إذ يُعبّر الأول عن صدق الأعماق، أما الثاني فيعبّر عن أهداف غامضة قد لا تكون جيدة. فلذا، ينبغي للمربين والعقلاء تهذيب هذه المهارة، وتحويلها إلى مهارة تنفع أصحابها ولا تضر الآخرين، تمامًا كما ورد في الوصف القرآني:
“وهدوا إلى الطيب من القول”،
“وقل لعبادي يقولوا التي هي أحسن”
إنها كوارث الكلام المغشوش في أواني لامعة التي عاش الكثير من الشباب على إثرها حياة احلام لا يمكن أن تطابق الواقع…