في خضمّ الأحداث الجارية، يلمس المتتبع لتاريخ الحروب البشرية من بدايتها إلى عصرنا الحاضر تنوّع وتلوّن أسبابها، واختلاطها بنزاعات أخرى غير حربية، كالنزاع الاقتصادي، والصراع على الامتلاك والثروة، والنزاع العرقي والاجتماعي والسياسي، وغيرها.
ويمكن تصنيف الحرب التي اشتعلت بين الصديقتين إسرائيل وإيران بأنها حرب بين “أصدقاء الحرب”، فكلا الدولتين تحملان تاريخًا مظلمًا في الصداقة مع الحرب، وحب استدامتها، حيث أثبتت العقود الماضية منذ نشوء كلا النظامين أن علاقتهما بالحرب وإثارة الفتن والقلاقل في مختلف أنحاء العالم لا تنقطع؛ فكلما خبت نار الفتن أوقدوها، إلى درجة أنه يمكن إدراجهما تحت صفة الإدمان على إراقة الدماء. فلا يكاد يمرّ يوم دون أن يختلق أحدهما أعذارًا وأسبابًا لحرب مباشرة أو حرب بالوكالة، أو عبر التحريض الخفي والنفاق الماسوني، كالراعي والذئب، حين حذّر الراعي جماعته من الذئب، فلم يأتِ الذئب، ولم يُهاجم الغنم، لكن الراعي لم يسلم من تهمة الكذب، ولم يعودوا يصدقونه، حتى إذا جاء الذئب فعلًا، أكل الغنم ولم يجد من يصدّق الراعي.
وكما يقولون: “من عاش على طبع مات عليه”، فمن ينتظر نتائج الحرب الغامضة التي تدور رحاها بين إسرائيل وإيران على أنها ستخمد قواهما، فعليه ألا يُجهد نفسه في هذا الانتظار؛ فقد أثبت التاريخ أن للحروب أسبابًا وأهدافًا مبطّنة لا يعلمها كثير، تُغلّف بالسرية التامة، وقد لا تقتصر على أطرافها فقط، بل قد تشتعل نار الحرب من أجل التعاضد للسيطرة على هدف ثالث لا علاقة له بالحرب، لا من قريب ولا من بعيد.
وعلى الرغم من المشاهدات الحيّة التي تبثّها وسائل الإعلام لاستهداف طرفي الحرب أعماق الطرف الآخر، إلا أن المشهد يبدو أقرب إلى سيناريو مرسوم ومحدّد الأهداف، حيث تبدأ إسرائيل بالعدوان، رغم أنه لا علاقة لها بمباحثات البرنامج النووي الإيراني التي تدور بين الجانبين الأمريكي والإيراني.
ويبدو كذلك أن الأمر لا يخلو من رغبة كليهما في إثارة مشاعر الداخل، واستعطاف الرأي العام فيهما، ولتعويم التصدّع الداخلي في النظام السياسي لدى البلدين، والذي بات يعاني مؤخرًا من درجة غليان شعبي غير معهودة، سواء لتردّي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، أو لفقدان الأمن والاستقرار الذي تنشده كل الشعوب وتسعى إليه كل الدول.
ومن جهة أخرى، تبدو وكأنها حرب استنزاف اقتصادي تتم باتفاق غير معلن مع بعض القوى العظمى، لإشباع أطماعها الضخمة في منطقة النزاع. وعلى ذلك، يمكننا تسميتها “حرب الوكالات المبطّنة والأهداف الغامضة” التي لا يمكن التنبّؤ باتجاهها ولا بنتائجها.
وفي نهاية المطاف، ينطبق على هذه الحرب وصف: “أصدقاء الحرب” للتعبير عن الرغبة الجامحة من الطرفين في أجواء الحرب وصراعاتها التي لا تنتهي…






