اتخذت ظاهرة التطرف أشكالًا مختلفة، متعددة المسميات، تصب كلها في الخروج عن منهجية الإسلام السمحة ووسطيته التي تفرد بها عن الأديان، فجعلته خيرها وأكثرها رحمة بالعالمين، قال تعالى:
“وَكَذَٰلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِّتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا”.
فهذا المفهوم الواضح لوسطية الدين جعله مقبولًا من كل الناس، ومن كافة الشعوب عبر الأزمنة المختلفة، مما أدى إلى دخول الناس في دين الله أفواجًا.
وقد نقض المتطرفون هذا القبول، وشوّهوا صورته حين انحرفوا فكريًا وسلوكيًا، وتلبسوا ألوانًا مختلفة من هذا الانحراف، مع اشتراكهم في مفهوم واحد، وهو الغلو الديني والتشدد الناجم عن التنطع، الذي نهى عنه الله عز وجل، فقال تعالى:
“ورهبانيةً ابتدعوها ما كتبناها عليهم”،
وحذّر الرسول صلى الله عليه وسلم من التطرف ونهى عنه بقوله:
“اكلفوا من العمل ما تطيقون، فإن الله لا يملّ حتى تملّوا، وإن أحبّ الأعمال إلى الله ما داوم عليه صاحبه وإن قلّ”، وفي رواية:
“فإنه لن يشادّ الدين أحدٌ إلا غلبه”.
والمتأمل في أحوال المتطرفين من الصوفية والفرق الأخرى، يجد أنهم قد سلكوا طريق التشدد والمشقة، وابتدعوا أعمالًا لم يشرعها الدين، وتلبّسوا عباءة التدين، وادّعوا القرب الأعظم من الله، وهذا كله جعلهم ينظرون إلى عامة الناس بازدراء واحتقار، بل قادهم الشيطان إلى تكفير الناس وإخراجهم من الملة.
وقد تأثر المجتمع السعودي في العقود الماضية بهذا الفكر المتطرف تأثرًا سلبيًا، فظهرت جماعات تنبذ الحياة المعاصرة، وتكره التعايش، وتُضيّق على الناس بتحريم ما أحلّ الله، وترى أن لا وسيلة إلى الجنة إلا عن طريقهم فقط.
وتبع ذلك أن اعتنقوا أفكارًا إرهابية منحرفة عن الفطرة، وتأصلت في أنفسهم مجموعة من الأمراض النفسية الخطيرة، التي أدّت ببعضهم إلى التفجير والانتحار، والفهم الخاطئ لأحكام ومقاصد الدين الحنيف، كما أدّت بالبعض الآخر إلى الانتكاس الكلي والخروج من الدين.
وقد دفعت أسرهم ومجتمعاتهم ثمنًا باهظًا لهذا الفكر المتعفّن، رغم أن زراعته كانت صلبة، وتمّت من أناس يعتقد المجتمع بمشيختهم وعلمهم، وأنهم علماء ثقات، بينما هم في الواقع دعاة وخطباء كانت لهم أهواء ومطامع ليست من الحق في شيء، بل هي عين الإفساد، قال تعالى:
“ولو اتّبع الحق أهواءهم لفسدت السماوات والأرض ومن فيهن”.
ولعلنا نضرب مثالًا واحدًا من الأمراض التي نتجت عن التطرف والغلو، ألا وهو مرض الانطواء والعزلة، الذي يقود إلى الاكتئاب بأشكاله المختلفة، والذي قد يصل بصاحبه إلى مرحلة خطيرة جدًا تُعرف بـ الاكتئاب السوداوي أو الميلانخوليا، وهو نوع من الاكتئاب الحاد الذي تظهر له أعراض أكثر حدة من أنواع الاكتئاب الأخرى، كما أن علاجه يكون أكثر صعوبة.
فتتحول نظرة المريض إلى نفسه ومن حوله نظرة عدوانية، قد ينتج عنها القتل والانتحار. ويمكن أن تساهم التغيرات في الدماغ، التي تتسبب بها الأفكار المشوشة والفهم الخاطئ للدين والعلاقات الاجتماعية، في الإصابة بالاكتئاب السوداوي.
فتتعطل الغدة النخامية والغدد الكظرية والغدد المسؤولة عن ضبط الأعصاب، وتلك التي تنظم الإجهاد والشهية وغيرها. وقد لا يكون العلاج النفسي أو العلاج بالكلام كافيًا، وإن فُقد فقد تعود الأعراض في وقت لاحق.
وأمام هذا الركام الهائل الذي خلفه المتطرفون في عقول الشباب ومن تأثر بهم، أصبح لزامًا على المتخصصين في الجامعات، في مجالات الطب، والطب النفسي، والتربية الإسلامية، وعلم النفس، والإرشاد السلوكي، والآداب، أن يضطلعوا بواجبهم تجاه المجتمع، بمعالجة هؤلاء، ومساعدتهم على الاستشفاء المطلوب من أمراضهم النفسية.
وتعمل مراكز الإصلاح التي أنشأتها الدولة -رعاها الله- في هذا الإطار، لإعادة هؤلاء إلى الوسطية، ونبذ الغلو والتطرف، بما يعود بالنفع عليهم وعلى أسرهم ومجتمعهم، ليُسهموا بأدوارهم المطلوبة، ويصبحوا مواطنين صالحين منتجين