المقالات

التقاعد: انعتاقٌ لا انكفاء!

لطالما كان التقاعد موضوعًا متداولًا في المجتمع، يتناقله الجميع بين مشاعر الخوف والتحدي. ففي الوقت الذي يراه البعض نهاية لا مفر منها وعزلة قسرية، يراه آخرون فرصة حقيقية للراحة والنمو الشخصي .
وقد استوقفتني أحاديثُ الصديق الإعلامي الأستاذ عدنان صعيدي في زاويته “وللحديث بقية…” (خاصةً حديثه رقم 504 بتاريخ 21 يوليو 2025)، والتي تناولت تفاعل القراء مع كتاباته عن نادي “6090 حياتي الجديدة”. الذي يهدف إلى جمع المتقاعدين في نادي يمارسون فيه نشاطهم بدلاً من الانطواء على الذات.
أتفق تمامًا مع أهمية النادي لأعضائه. لكنّ الذي أثار تأمُّلي هو النظرة السلبية المُعلَّقة بجلوس المتقاعد في بيته، حيث تُعَدُّ فكرة “التقاعد” لدى الكثيرين مرادفة للانطواء على الذات، وبدء مرحلة من “التقوقع” و”الاكتئاب” نتيجة للخروج من الحياة المهنية.
بالنسبة لي، التقاعدُ ليس نهاية المطاف، بل هو في الواقع خيار رائع. هو لحظة لاكتشاف الذات، والتمتع بالوقت الذي كنت أفتقده خلال سنوات العمل الطويلة. إنه محطةُ انعتاقٍ واستعادةٍ للذات. لقد منحني هذا الفضاء فرصةً ثمينةً لأعيشَ حياتي الخاصة بكلّ طاقتي وإرادتي، بعيدًا عن قيودٍ طالما كبَّلتْ إيقاعَها.
تذكَّرْتُ صديقًا بلغ من العمر عتيًّا، ظلّ يلازم “طوب الأرض” راجيًا تمديد خدمته سنةً تلو أخرى، حتى إذا عقد العزم أخيرًا على التقاعد، بدأ يعدّ العدة للإشراف على فرعٍ لجهة عمله في الخارج! هنا، نجد كيف أن بعض الأشخاص يربطون حياتهم الوظيفية بهويتهم الشخصية حتى بعد التقاعد.
لكن، في تجربتي الشخصية، وجدت في التقاعد راحة نفسية عظيمة، مشابهة لتلك التي عبر عنها الأستاذ ثروت الخرباوي بعد خروجه من جماعة الإخوان المسلمين. حين تحدث عن الراحة النفسية التي انتابته بعد تركه جماعة الإخوان المسلمين. فالتقاعد، مثله، كان خروجًا من رِقّ الوظيفة إلى فُسحةِ الحرية، وحالةً من السكينة والسلام الداخلي لا تُقدَّر بثمن، حتى لو اضطربت الدنيا من حولك.
خلال مسيرتي، كان من الصعب التعامل مع البيروقراطية التي تعرقل الإنجازات ، فقد عانيت حقا أكبرمعاناة من عقليات بيروقراطية متحجّرة، تختزل الإنجاز في الحضور والانصراف، وتُحوِّل الروتينَ إلى غاية، وتعقّد الإجراءاتِ باسم “الدقة”، لتفتحَ أبوابًا للوساطة المشبوهة والامتيازات المبنية على “عندك قرش.. تساوي قرش”. التحرر من هذا النمط والقيود المصاحبة له، كان بمثابة انفراجة عاطفية وعقلية بالنسبة لي بعد التقاعد، وأعتبرته في حدّ ذاته نصرًا شخصيًّا.
ختامًا:
وما أدراكَ ما التقاعد؟! إنه ليس نهاية بل بداية جديدة، يمكن أن يكون فرصةٌ ذهبيةٌ لاكتشاف الذات من جديد: للقراءة، للعائلة، للهوايات المدفونة، للسفر، للتطوع، أو حتى للاستمتاع ببساطة العيش دون جدول زمني خانق، وعندما تملكُ نفسَك، فكأنما ملكتَ الكونَ كلَّه. أختتمُ بكلماتي في “#نافذة” (25 فبراير 2016)، والتي ما زالت تعبّر عن قناعتي الراسخة:
>  لا تسألني عن التقاعد… جرّبه أنت، ثم اسأل روحك!!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى