حين تمضي المملكة إلى الشام، فهي لا تمضي بخطابٍ عابر، ولا من باب المجاملة السياسية، بل تمضي كما تمضي العواصم ذات الرسالة إلى شقيقاتها اللاتي لم يسقطن من القلب وإن غبن عن المشهد، وكما تمضي الدول التي تعرف وزنها نحو الأماكن التي يُعاد فيها ضبط اتزان الأمة، لا بناء الأرقام فقط. تمضي المملكة اليوم إلى دمشق، لا لتُطلق مؤتمرًا اقتصاديًا، بل لتُحيي ما هو أعمق: الوفاء السياسي، والحضور العربي، والإيمان بأن الأوطان لا تُرمَّم إلا بالشراكة، وأن الكرامة لا تُدار بالحنين بل بالفعل.
الشام ليست مجرد رقعة جغرافية، بل موطن البركة، ومنطقة الاصطفاء، ومسرح الملحمة. وفي رواية أخرى قال ﷺ: “عليك بالشام، فإنها خيرة الله من أرضه، يجتبي إليها خيرته من عباده.”
ولم يكن غريبًا أن يُخصّ بالذكر دمشق في قوله ﷺ:
“فسطاط المسلمين يوم الملحمة بالغوطة، إلى جانب مدينة يُقال لها دمشق، من خير مدائن الشام.”
وفي ظلال هذه الأحاديث، لم تكن سوريا يومًا خارج وجدان المملكة. فمنذ عهد الملك عبدالعزيز – طيب الله ثراه – كانت العلاقة مع الشام علاقة قلب لا حساب. قالها صراحة:
*“إني للعرب عمومًا، ولسوريا خاصة… لا أطمع في حكمها بل أريدها دولة مستقلة استقلالًا تامًا.”*
ومنذ لقائه التاريخي مع الرئيس شكري القوتلي عام 1945، تتابعت مراحل القرب، وارتبط المسار السعودي–السوري بمنطق لا تُفسّره المصالح المؤقتة، بل الرسوخ في فهم من هو الجار، وما معنى الأمة، ومتى تكون القيادة في موقعها.
في عهد الملك فيصل، كانت سوريا صوتًا للوحدة العربية، والقدس حاضرة، والشام جبهة لا تنكسر.
في عهد الملك فهد، ظلّ الدعم صامتًا، عميقًا، يخرج من موقع الكرامة لا من حساب الربح والخسارة.
وفي عهد الملك عبدالله، قالها بوضوح:
“*ما يحدث في سوريا لا تقبله حكمة، ولا يرضاه عربي ولا مسلم*.”
ثم جاءت السنوات العصيبة، فاستقبلت المملكة على أراضيها أكثر من ٢.٥ مليون سوري، دون خيام، دون تصنيف، دون قيد. المدارس مفتوحة، المستشفيات كذلك، فرص العمل متاحة، ولم تُطلب من أحد شهادة امتنان.
لأن المملكة، كما يقول المثل السوري: “*وقت الشدايد بيبان المعدن الأصيل*”، ومعدن السعودية في الشام لا يُختبر، بل يُوثّق.
واليوم، لم تكتفِ المملكة بوقفة المروءة، بل تمضي إلى مرحلة الشراكة. فحين وجّه سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان – حفظه الله – بتنظيم منتدى الاستثمار السعودي – السوري في دمشق، لم يكن يصنع عنوانًا إعلاميًا، بل يُدشّن منعطفًا حقيقيًا يُعيد لسوريا موقعها، وللمستثمر العربي ثقته، وللعالم إشارات واضحة بأن النهوض لا يُدار من بعيد.
هذا المنتدى ليس فعالية في روزنامة المناسبات، بل وثيقة شرف اقتصادي – سياسي، تُعلن أن الشراكة لا تُبنى فقط عند القوة، بل في الوقت الذي يحتاج فيه التاريخ إلى من يلتقط لحظاته بذكاء وحنان.
فمن يعرف سوريا يعرف أنها ليست ساحة فقط، بل سارية، وأنها لا تطلب صدقة، بل شريكًا يراها كما هي: عمقًا، حضارة، وركنًا إذا استقر، استقرت من حوله خرائط كثيرة.
المنتدى يأتي تتويجًا لمسار سعودي ناضج، بدأ بجسر جوي إنساني في يناير، ثم دعم سياسي في مجلس الأمن، ثم مطالبة برفع العقوبات، ثم إعادة سوريا إلى الجامعة العربية، ثم سداد جزء من التزاماتها الدولية، حتى لحظة دخول المستثمر السعودي إلى دمشق من بوابة رسمية، مفتوحة، محمية، باسم القيادة، وبرعاية الرؤية.
ولي العهد لا يفتح بابًا تجاريًا، بل يصوغ معادلة تقول إن الرؤية 2030 ليست محلية في أطماعها، بل عربية في أخلاقها، إقليمية في أفقها، وإنه لا استقرار في جزيرة العرب دون شراكة واعية مع الهلال الخصيب، ولا أمن دائم إن ظلّت سوريا متروكة للفراغ.
في الشام لا يكفي أن تُواسي، بل يجب أن تُشارك.
وفي دمشق لا تكفي الخطابات، بل يجب أن تُشيَّد المصانع وتُفتح الجامعات وتُعاد الكهرباء إلى البيوت.
لأن كما يقول المثل السوري الجميل: “*إيد وحدة ما بتصفّق*”.
وهذا بالضبط ما تفعله المملكة: تمدّ يدها، لا لتصفّق وحدها، بل لتُقيم مشروعًا لا يُبنى إلا معًا.
وسوريا، حين تفتح أبوابها اليوم، لا تفتحها لأصحاب الأجندات، بل لمن يُدرك الفرق بين الاستثمار والتطفل، بين الدعم والتملك، بين الطارئ والرفيق.
والمستثمر الذكي لا يسأل “هل هذا وقت سوريا؟”، بل يرى من خلف هذا المنتدى قيادة تعرف متى تُقدم، ومتى تُبادر، ومتى تقول: الآن وقت البناء.
وهكذا، حين تمضي المملكة إلى الشام، فهي لا تذهب لتجسّ النبض، بل لتستعيده.
ولا تدخل لتملأ فراغًا، بل لتُقيم اتزانًا.
ولا تحضر بلهجة فضل، بل بوفاء تاريخي يقول لكل من نسي: “*يلي ما إلو قديم، ما إلو جديد”.
وفي كل يد تُمدّ لا لتأخذ بل لتنهض، وفي كل مشروع يُبنى لا ليتفاخر بل ليبقى، وفي كل خطوة تُكتب فيها قصة جديدة،
نُدرك أننا أمام لحظة لا تشبه سواها،
لحظةٍ تُقال فيها الجملة الكبيرة:
حين تمضي المملكة إلى الشام.






