المقالات

تأملاتٌ في نص : «غُصص الليالي» ،للشاعرة: أفراح مؤذنه

عرْض النص:
كيف لي من كنه ذاتي أهرب
وقيودي كجبالٍ تنصب
بين جلّادٍ مقيمٍ هاهنا
ومنافٍ عاث فيها اللَّهب
كمسيحٍ صعدتْ آهاتنا
وتوالتْ أمماً لا تصلب
يالتنهيدٍ بدتْ سوءتُهُ
من ضلوعٍ سرُّها لا يحجب
كم نداري غُصصاً تجتاحنا
وجراحاتٍ مداها أرحب
بين أسوار الهوى معتقلي
وتباريح الجوى تلتهب
كم ليالٍ وأدتْ آمالنا
ما الذي من أنسها نرتقب؟!

يا لها دنيا أرتنا عجباً
والذي تخفيه عنَّا أعجب!
________________________

بين أيدينا نصٌّ وجدانيٌّ وارف الظلال ائتلقتْ فيه عاطفة الشاعرة وخيالاتها المتوهجة في التعبير عن تمحور الألم حول الذات وسعيها الطامح إلى الخروج من بوتقة محيطها الذاتي إلى آفاق الحياة الرّحبة ، وذلك ابتداءً من هذا المطلع المتميّز بعلوِّ النبرة :
كيف لي من كنهِ ذاتي أهرب؟!
وقيودي كجبال تُنصب!

إنَّها انطلاقةٌ متكهربةٌ قائمةٌ على تساؤلٍ مرير تطلقه الشاعرة نائباً عنها ومعبّراً وسيطاً عن عذاباتها الخانقة المستعصية،تساؤلٌ لاتلتمس من ورائه إجابات حاسمة ولا عقاقير شافية فهو متعلق بالكُنه«عمق الأعماق».
تساؤلٌ أعقبته «لام المُلكية» مقترنة بياء المتكلم «لي» لتوحي إلينا وكأنَّها بصدد مهمة شاقة تحاول جاهدةً التغلب على مصاعبها والتخلّص من شظاياها العالقة في صفحة الوجدان .
إنّها تنشد الهرَب الآمن والاحتماء من هيمنة النوازع الذاتية عليها بيد أنّ سطوَ القيودِ عليها يحول تماماً دون أن تنال حرّيتها المُشتهاة.
إنّ «كنه الذات» هنا أشبه بالقضبان الحديدية والشاعرة هنا أشبه ماتكون بالسجين القابع فيها.
ويبدو السجين هنا في إطار دلالات العبارة ومضمونها فريسة للهواجس المستبدة وسمادير الظلام الجاثمة عليه، وكلما أطرق يفكر في وسيلة ممكنة تمنحه رؤية الحياة الزاهية خارج محبسه الطويل باء بالخسران الوبيل.
لقد بلغ الضجيج المحتدم في أعماق الشاعرة مبلغه الحادّ فلم يكن أمامها من مسلك في معرض استغراقها الفكري سوى إطلاق تساؤلها المفصلي الحاد حول كيفية الخروج من أسوار الذات لاسيّما وأنّ القيود الغليظة العاتية باتت
كالجبال العالية التي لاسبيل لتسلقها أو القفز عليها .
وكما أنّ الجبال غير قابلة للإزالة السريعة كذلك هي القيود النفسية والاجتماعية وما إليها،فهي بالمرصاد للشاعرة في أي قرار تصدره وفي أي رؤية كونية تؤمن بها.
ولعلها ترمز «بالجلاّد المقيم» لصوت الضميرالحادّ المؤرّق وذلك حين يلحُّ على الإنسان إزاء بعض المظاهر المؤلمة والمشاهد الدامية التي يودّ في قرارة نفسه لو استطاع التصدّي لقشورها و نزع الأصباغ والطلاسم عنها،أو تغييرها بجرّة قلم كما يقال.
ويذكرني مطلع الشاعرة هذا بأبيات للشاعر إبراهيم ناجي يقول فيها :
من لقلبٍ مُستطار اللُّب مَنْ
كلما عاوده التذكارُ جُن؟!

‎عبثًا أهرُبُ من نفسي ومن
ذلك الساكن روحي والبدنْ!

وبشاعر آخر غاب اسمه عني:
ليت لي قلباً ليسعدني
وصل الأحباب أم هجروا

إنَّ قلبي بعد نكبته
هامدٌ في الصدر يحتضر!

وترد في النص صور فنية برّاقة كتشبيه الآهات الصاعدة من جوانح الروح بالمسيح،وهي صورة عميقة تستحق الوقوف ولذلك مجال آخر.
كذلك شبهت «التنهيد» الموّار بالآلام الدفينة بين الضلوع، بالمكشوفة سوءته في الجسد المسجّى وذلك حين يكون الجسد عارياً فتزدريه الأنظار وتمقته ولايعبأ به المواسون المشفقون لامن قريب ولا من بعيد .
وكأنّي بالشاعرة هنا تشير إلى الحكمة القديمة المشهورة جداً:«اضحك تضحك لك الدنيا، وابك تبكِ وحدك»،وتتقاطع مع رؤى بعض الفلاسفة تجاه هذا المشهد المؤلم الذي يحزّ في النفس .
وهي ظاهرة ملحوظة في المجتمعات إذ هم في غنى عن أن يضيفوا إلى أحزانهم التي يصطلون بنارها أحزاناً أُخرى،والوجه المقطب العابس دائماً منبوذ حتى من أهله والمقرّبين منه.
وما أجدر أولئك المتجهمين بالإصغاء إلى معزوفة إيليا أبو ماضي الفاتنة التي يقول فيها:
كَمْ تَشْتَكِي وَتَقُولُ إِنَّكَ مُعْدِمُ
وَالْأَرْضُ مِلْكُكَ وَالسَّمَا وَالْأَنْجُمُ؟

وَلَكَ الْحُقُولُ وَزَهْرُهَا وَأَرِيجُهَا
وَنَسِيمُهَا وَالْبُلْبُلُ الْمُتَرَنِّمُ!

وَالْمَاءُ حَوْلَكَ فِضَّةٌ رَقْرَاقَةٌ
وَالشَّمْسُ فَوْقَكَ عَسْجَدٌ يَتَضَرَّمُ

هَشَّتْ لَكَ الدُّنْيَا فَمَا لَكَ وَاجِمًا
وَتَبَسَّمَتْ فَعَلَامَ لَا تَتَبَسَّمُ؟!

إِنْ كُنْتَ مُكْتَئِبًا لِعِزٍّ قَدْ مَضَى
هَيْهَاتَ يُرْجِعُهُ إِلَيْكَ تَنَدُّمُ

أَوْ كُنْتَ تُشْفِقُ مِنْ حُلُولِ مُصِيبَةٍ
هَيْهَاتَ يَمْنَعُ أَنْ تَحِلَّ تَجَهُّمُ

أَوْ كُنْتَ جَاوَزْتَ الشَّبَابَ فَلَا تَقُلْ
شَاخَ الزَّمَانُ فَإِنَّهُ لَا يَهْرَمُ

انْظُرْ فَمَا زَالَتْ تُطِلُّ مِنَ الثَّرَى
صُوَرٌ تَكَادُ لِحُسْنِهَا تَتَكَلَّمُ!

ثم إن الشاعرة مالبثتْ أن انتصرت واستطاعت الانفصال عن إطارها الذاتي وتقوقعها حول نفسها إلى الفلك الواسع، وذلك حين انتحتْ بالتعبير الفني ووشّته في امتزاج نوازعها الذاتيّة بصوت الجماعة وهمومهم الشائكة وذلك في البيت الخامس فيما يسمى عند أهل اللغة بفن «الالتفات» وهو الانتقال من ضمير إلى آخر بهدوء وسلاسة.
وهي في هذا المقام الجمعي أصابت كبد الحقيقة كما يقال وفي استخدامها كم الخبرية والتعبير بها عن الكثرة الكاثرة مايؤيد ذلك ،فكم من آلام مبرّحة حبسناها في أعماقنا، وكم من شكاوى أغلقنا الأبواب دونها،وكم من حسراتٍ أسدلنا الأستار عليها لااستهانة بها أو تقليلاً من خطرها بل محاولة للنهوض على أقدامنا ومواجهة الحياة غير العابئة بالحيارى والمساكين ومن إليهم من «المعذبين في الأرض» وفقاً لتعبير عميد الأدب العربي «طه حسين».
وللهوى في نظر الشاعرة أسوارعالية ساهمتْ في اعتقال نشيدها الهادئ وأمنياتها المؤتلقة ووضعت حدّاً منيعاً ضدّ جموحها وانطلاقها المشحوذ،
وماتزال «تباريح الجوى» هي الأخرى تتربص بها كالنار الموقدة التي من شأنها أن تلتهم الأخضر واليابس .
وفي البيت ماقبل الأخير تواصل الشاعرة الاتكاء على: «كم الخبرية» للتعبير عن شحناتها الانفعالية المتعلقة بالليالي الموؤدة وهي هنا تعيد إلى الأذهان عادة «وأد البنات» القديمة المتمثلة في دفنهنّ أحياءً في ظل موت الضمائر يومئذٍ وسيطرة النزعات الجاهلية والأعراف القبلية البعيدة تمام البعد عن جوهر الدين الحنيف،دين المساواة والمواساة والقيم الإسلامية الصافية.
فالليالي إذن في نظر الشاعرة أشبه بغلاظ الأكباد القُساة المسلوبين من الرحمة ومن النقاء الإنساني ،ومثلما هم دفنوا تحت أطباق الثرى أرواحاً بريئة لاتستطيع الدفاع ولا الاعتراض على مصيرها كذلك فعلت الليالي بالآمال العريضة والأحلام الوردية مافعلتْ.
إنّ الشاعرة هنا تشير بالليالي إلى الزمن المحسوس عندها
وهو يتسرَّب من بين أيدينا أثناء ركضنا وراء الأماني ركضاً محموماً، لاهين عن المخاطر المتوارية خلف ذلك الركض غير المدروس في الغالب الأعم .
كذلك كان الإحساس بالزمن عند الشعراء الشعبيين كما في أُغنية فنان العرب «ماعاد بدري» التي منها هذا المقطع :
تقول باكر وانت باكر تبرا
برا الزمن واقف على مر الأوقات

بتنتهي الدنيا قبل ماتجرا
لاضاعت الفرصة ترا الموت حسرات.

وتتصاعد موجة السؤال القائم على التعجب والإنكار في شطر البيت نفسه بطريقة شجيةوذلك في قولها:
«ما الذي من أُنسها نرتقب»؟!
وإنه لسؤال يقرع النفوس ويزلزلها ،ويزّهدها في دنيا فانية ،كلّ مافيها مصيره للزوال طال الزمان أم قصر.
وانتهى بشاعرتنا المطاف إلى التعجب من الدنيا وتقلباتها واتساع المفارقات في مراحلها المختلفة وهي بذلك تتساوق مع نظرات العديد من الشعراء
ممن فطنوا لألاعيب الدنيا ومتعها الزائلة الزائفة ووقفوا منها موقفاً حاسماً
كالّذي يقول:
ومن ينظر الدنيا بعينٍ بصيرةٍ
يجدها أغاليطاً وأضغاثَ حالم

ويوقظه نسيانُ ما قبل يومه
على أنها مهما تكن طيف نائم

ولكنها سحّارةٌ تظهر الغنا
بصورة موجودٍ بقالب دائم

فكيف بنعماها يُغرّ أخو حجىً
فيقرع إن فاتت لها سن نادم؟!

وهل ينبغي للعارفين ندامة
على فائتٍ غير اكتساب المكارم!

وتلتقي مع أمير الشعراء في قوله:
يا نَفسُ دُنياكِ تُخفى كُلَّ مُبكِيَةٍ
وَإِن بَدا لَكِ مِنها حُسنُ مُبتَسَمِ

فُضّي بِتَقواكِ فاهاً كُلَّما ضَحِكَت
كَما يَفُضُّ أَذى الرَقشاءِ بِالثَرَمِ

لا تَحفَلي بِجَناها أَو جِنايَتِها
المَوتُ بِالزَهرِ مِثلُ المَوتِ بِالفَحَمِ!

وبعد:
فقد مررت بنص الشاعرة الكريمة مرور الكرام وألمحت إلى بعض جوانبه المضيئة إلماحاً سريعاً خشيةَ الإطالة
وذلك لما حمله النص من مضامين تخاطب العقل والوجدان معاً وإيماءات تفعل في النفس فعل السحر وتصويرات ورؤى تستدعي الانتباه وتدفع النفس الإنسانية لاتخاذ موقف سليم من الدنيا العبثية وعدم الاستكانة المطلقة إليها على طول الخط.
والله من وراء القصد.

محمد سلطان الأمير

شاعر - معلم لغة عربية - مكة المكرمة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى