المقالاتعام

ريادة تُبنى بالحوكمة

منذ أن تبنّت المملكة العربية السعودية رؤية 2030، والقطاع غير الربحي يشهد تحولًا نوعيًا غير مسبوق، تقوده وزارة الموارد البشرية والتنمية الاجتماعية بخطى ثابتة، عبر المركز الوطني لتنمية القطاع غير الربحي، الذي أصبح اليوم أحد أذرع التمكين المؤسسي الأكثر تأثيرًا في المشهد الوطني، بخارطة طريق واضحة، ومؤشرات أداء قابلة للقياس، وأدوات تقييم تُرسّخ مبدأ الجدارة المؤسسية.

في تقرير المركز الوطني الأخير، بلغت نسبة الجمعيات الممتثلة لمعايير الحوكمة 38%، وهي نسبة تعبّر عن مسار تصاعدي نحو النضج التنظيمي. ومع أن غالبية الجمعيات لا تزال في بدايات رحلتها، إلا أن هذا التحسّن المتدرج يمثل فرصة حقيقية لتعزيز الشفافية والشراكات، وتوسيع بيئة التمكين بما يقلّص الفجوة ويحقق مستهدفات الرؤية.

وقد أشار التقرير ذاته إلى إشراف المركز على أكثر من 4300 كيان غير ربحي، وتقديم دعم حكومي تجاوز نصف مليار ريال، يُركّز بشكل أساسي على التأسيس وبناء القدرات. أما الاستدامة، فتتطلب من الجمعيات تطوير نماذج تشغيلية متقدمة، تحقق مستويات عالية من الامتثال الحوكمي، وتترجم السياسات إلى ممارسات مؤسسية فعالة.

لكن الالتزام لا يتحقق في معزل عن التحديات. فعدد من الجمعيات، خصوصًا الناشئة منها، تواجه فجوة في الجاهزية الإدارية والتقنية، مما يصعّب تفعيل ممارسات الحوكمة بشكل شامل. كما أن بعض متطلبات المركز تُطبّق بمعايير موحّدة لا تراعي دائمًا التفاوت بين الجمعيات، وهو ما قد يخلق فجوة في التطبيق، لا في النوايا.

ولا يمكن تحقيق التميز دون بناء تصور واقعي لمسارات النضج، يتجاوز المفاهيم التقليدية حول الدعم أو التسجيل، نحو التمكين المؤسسي القائم على الأداء الحقيقي، وكفاءة الهياكل، وشفافية الممارسات.

لقد أصبحت الحوكمة اليوم أداة سيادية لتقييم نضج الجمعيات، وليست إجراءً تنظيميًا شكليًا. فمعايير الجودة المؤسسية أصبحت أكثر وضوحًا، ومؤشرات التميز باتت أكثر ارتباطًا بكفاءة الأداء، وشفافية الأنظمة، وفاعلية القرارات. ومن ذلك نشير إلى تجربة مؤسسة “موهبة” التي نالت جائزة الملك عبدالعزيز للجودة، لا بسبب وفرة التمويل، بل نتيجة نضج أنظمتها، واتساق استراتيجيتها، وشمولية ممارساتها الرقابية، مما جعلها نموذجًا وطنيًا للتفوق المؤسسي في القطاع غير الربحي.

فالحديث عن الحوكمة لم يعد يدور حول لوائح مكتبية، بل عن بيئة عمل شفافة، ونماذج تشغيل رشيدة، وثقافة مساءلة تضمن استدامة الأثر. وفي بيئة تُدار بالكفاءة، فإن التمكين يُمنح لمن يلتزم، لا لمن يطلب فقط.

ختامًا، فإن تعزيز الحوكمة في القطاع غير الربحي لا يتحقق فقط عبر رفع سقف التوقعات، بل عبر تصميم منظومة تمكينية ذكية، تتيح التدرج، وتكافئ الالتزام، وتُفعل أدوات الشفافية. بهذا النهج تتحول الحوكمة من مطلب تنظيمي إلى ثقافة مؤسسية راسخة، تضمن تحقيق الأثر واستدامة العطاء.

الجمعيات غير الربحية ليست مطالبة فقط بالامتثال، بل بالتفوق. فمرحلة التأسيس انتهت، ومرحلة التمكين بدأت، ومرحلة الريادة تنتظر من يجرؤ على الالتزام الكامل.

• مستشارة في إدارة المشاريع والتخطيط والجودة والحوكمة

عواطف محمد الشليح

مستشارة في التخطيط الاستراتيجي وإدارة المشاريع والحوكمة

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. مقال ثري يضع اليد على جوهر التحول في القطاع غير الربحي، ويبرز الحوكمة كأداة للتفوق المؤسسي لا كإجراء تنظيمي عابر. لفت انتباهي التركيز على أن الامتثال وحده لم يعد كافيًا، بل المطلوب هو تجاوز مرحلة التأسيس إلى فضاء التمكين ثم الريادة. ما تطرقتِ إليه أستاذة عواطف بشأن تحديات الجمعيات الناشئة واقعي جدًا، وهو ما يستدعي إعادة تصميم الأدوات بما يراعي التفاوت في الجاهزية دون الإخلال بمعايير الجودة. كما أن استشهاد المقال بتجربة “موهبة” يعكس أن النجاح لا يُقاس بحجم التمويل بل بنضج المنظومات. في تقديري البسيط، ما نحتاجه اليوم هو بناء ثقافة مؤسسية تُكافئ الشفافية وتستثمر في كفاءة الهياكل الإدارية. بهذا فقط يتحقق الأثر ويستدام العطاء، لتتحول الحوكمة من مطلب تنظيمي إلى وعي وطني راسخ

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى