المقالات

فجرٌ جديد في دفاتر الوطن

مع إشراقة كلِّ عامٍ دراسيٍّ جديد، يتجدّد المشهد في مدارس الوطن: حقائب تتأهّب، ودفاتر بيضاء تتفتح كأكمام الورد، وأرواح صغيرة تمضي نحو مقاعدها بين قلقٍ ورجاء. إنه المشهد الأجمل في دورة الحياة الوطنية؛ حيث تلتقي براءة الطفولة بحزم الطموح، وتُضاء القلوب بمصابيح العلم. ليس العام الدراسي موعداً عابراً في تقويم الزمن، بل هو إعلان انطلاقٍ لموسمٍ جديد من صناعة الإنسان. فمن بين جدران المدارس وفضاءات الجامعات، تخرج الأجيال التي ترفع الأوطان على أكتافها. كل معلم يقف أمام تلاميذه إنما يخطّ لبنات النهضة، وكل طالب يفتح كتابه إنما يُضيف حجراً في صرح الغد. يبدأ الطالبُ عامه متردداً بين رهبة المجهول وشغف الاكتشاف. لكن تلك الرهبة سرعان ما تخبو حين يكتشف أن قاعات العلم ليست سجناً، بل أفقاً واسعاً، وأن كل معادلة تُحلّ، وكل قصيدة تُحفَظ، وكل تجربة تُجرى، ما هي إلا مفتاحٌ لبابٍ جديد في رحلته نحو ذاته ونحو وطنه. ولا يكتمل هذا المشهد بلا المعلّم، ذاك الساهر على تنوير العقول. إنّه صانع الأجيال وحارس الذاكرة، يقدّم الدرس لا كحروفٍ جامدة، بل كقناديل تضيء الدروب. يقف كالنخلة: جذورها ضاربة في أرض القيم، وأغصانها عالية في سماء المعرفة، تُظلّل أبناءها بعلمٍ وصبرٍ ووفاء. لكنّ رسالة المعلّم اليوم باتت أوسع من تلقين الدروس؛ فهو يقف في مواجهة سيلٍ جارف من وسائل التواصل، بما تحمله أحياناً من أفكارٍ هادمة وقيمٍ مشوَّهة. وهنا تتضاعف مسؤوليته: أن يكون حارساً للقيم قبل أن يكون شارحاً للمناهج، وأن يُحصّن عقول طلابه بالوعي، فلا تلتقط ما يُهشّم المبادئ ويُضعف الانتماء. فالمعلّم الحق ليس من يحشو الذاكرة بالمعلومات، بل من يزرع في القلب مناعةً ضدّ التيه والاغتراب. وفي الطرف الآخر، لا بدّ من النظر بعين الرحمة إلى الطالب؛ ففي الصفوف من يحمل جرح اليُتم، ومن ينهض مثقلاً بعوز الحاجة، ومن يجيء من بيتٍ تمزّقه المشاكل. هؤلاء جميعاً لا تقلّ حاجتهم إلى الحنان عن حاجتهم إلى المعارف. ومن هنا كان لزاماً على المعلّم أن يكون أباً حانياً قبل أن يكون معلِّماً صارماً، وأن يدرك أنّ الكلمة الطيبة قد تفتح لطالبٍ باب أملٍ أوسع من أي درس. وإيّاكم والتشهير بالطلاب في عثراتهم، فإن كرامة المتعلم جزء من قداسة العلم. التصحيح لا يكون بالفضح، ولا التربية تكون بالانكسار. بل الكياسة كل الكياسة أن يُوجَّه المخطئ برفقٍ يحفظ له ماء وجهه، ويجعله يعود إلى جادة الصواب بعزيمةٍ لا بخزيٍ أو انكسار. فالتعليم رحمة، ومن رحم التعليم وُلدت الحضارات.
ولْيُعلَم أنَّ رفعَ الهممِ، وحفزَ العزائم، وإشعالَ جذوة الطموح في النفوس، ليس مجرّد أسلوبٍ تربويٍّ حديث، بل هو مبدأٌ أصيل في مدرسة النبوّة؛ فقد كان سيِّد المعلِّمين صلّى الله عليه وسلّم يزرع في أصحابه علوَّ الهمّة، فيجعل من اليتيم علَماً، ومن الفقير قائداً، ومن المغمور مشعلاً للأمم. وهكذا يجب أن يكون التعليم في أوطاننا: يفتح للطالب آفاق الرجاء، ويعلّمه أن الخطوة الصغيرة اليوم قد تُصبح فتحاً كبيراً غداً، وأن ما بين دفّتي الكتاب إنما هو جناحان للتحليق، لا جداران للحبس والتقييد. فالتربية الحقّة ليست تلقينَ أوراقٍ، بل صناعةُ أرواحٍ تعانق المعالي. العام الدراسي الجديد ليس مجرد صفوفٍ وكتب، بل هو بداية كالصبح، تحمل وعودها لمن يُجيد اغتنامها. ففي كل كتابٍ مستقبل، وفي كل معملٍ أمل، وفي كل درسٍ بذرة، ستثمر يوماً ما إن سُقيت بجدٍّ وإخلاص. إن استقبال العام الدراسي الجديد يجب أن يكون احتفاءً جماعياً بالعلم، وتجديداً للعهد بأن المعرفة ليست ترفاً، بل هي أساس بقاء الأمم وخلودها. فليكن عامنا هذا أكثر جدّاً، وأعمق علماً، وأقوى عزيمة، ولنجعل من مقاعد الدراسة منطلقاً لنهضة لا تنطفئ.
وكتبه/فائز بن سلمان الحمدي

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى