المقالات

الحنين إلى الديار.. معيض القَافرِي الزهراني نموذجًا

الحنين إلى الوطن من أعمق المشاعر الإنسانية التي خلدها الشعر العربي عبر العصور. فمنذ المعلقات الجاهلية، وقف الشعراء على الأطلال يبكون الديار، يترجمون أشواقهم إلى أماكن نشأوا فيها وذكريات عاشوها. ولم يكن الوطن مجرد جغرافيا أو مكانًا للسكن، بل كان هوية وذاكرة وملاذًا عاطفيًا.

ومع مرور الزمن، ظل الحنين سمة بارزة في أشعار العرب، خاصة أولئك الذين أبعدتهم الحياة عن أوطانهم، أو حالت ظروف المرض والكبر دون قدرتهم على العودة إليها. وهنا تتجلى تجربة الشاعر معيض القافري الزهراني، الذي جسّد بصدق مأساة الإنسان حين يثقل الجسد وتظل الروح معلّقة بالأرض الأولى.

بين القفرة والسراة

في سنواته الأخيرة، أقعد المرض قدمي الشاعر القافري، فلم يعد يستطيع السير أو التنقل بين القُرى كما اعتاد. عاش في قرية القفرة بالقطاع التهامي من بالحكم، بينما ظل قلبه مشدودًا إلى قُرى السراة حيث البيت والمزارع والذكريات. لقد كانت نفسه تتوق إلى أن يزور أهله وجماعته، وأن يمرّ بدروب الصبا والطفولة، لكن العجز حال بينه وبين ذلك.

لم يجد القافري سوى الشعر ملاذًا ليبثّ أشواقه، فأنشد بصوته الشجي في وسيلته المعروفة، وسيلة القافري:

يا ليتني أبصر الدُورْ .. قدّام ياجي المقدورْ

أدرّجْ فيها ملا الدُورْ .. أيّامي واللّيالي

فيها من كل منعورْ ٠٠ مـن العاميّة ودار العورْ

وأهل الخيالة في الشورْ ٠٠ للعرضة والقتالِي

في شعر القافري، يظهر الحنين واضحًا:

الدور: القرى وبيوت القرية وأهلها، وهي عنده رمز الحياة.

المقدور: القدر المحتوم، أي الموت الذي يدنو منه.

أدرّج: أي يتمشى بين تلك البيوت، متذكرًا أيامه ولياليه.

إنه شوق صادق لنظرة أخيرة إلى الديار قبل أن تُطوى صفحة العمر.

في هذه الأبيات، يصف الشاعر بيوت قريته وأيامه الماضية، ثم يربط المكان بأهله، فيتغنى بالشجعان من قرية العامية ودار العور (وهي عزوة لأهل دار المسيد)، وبفرسان بني حريم، وهم جميعًا رجال بالحكم الذين عُرفوا بالرأي السديد في السلم والحرب.

وهكذا جمع الحنين للمكان بالاعتزاز بالإنسان، لتكتمل الصورة الشعرية بين الأرض وأهلها.

كما أن أبيات القافري ليست مجرد غناء فردي، بل هي شهادة إنسانية على أن حب الوطن متجذر في النفس حتى آخر لحظة. فالشاعر لم يطلب مالًا ولا جاها، إنما طلب أن يرى وطنه قبل أن يفارقه. وهنا يلتقي مع تراث طويل من شعراء العرب الذين جعلوا الحنين جزءًا من خلودهم، بدءًا من امرئ القيس ولبيد، وصولًا إلى شعراء المهجر.

هكذا كانت علاقة الشاعر الفارس معيض القافري الزهراني بالإنسان والمكان؛ علاقةً متجذرة لا تنفصم عراها، حضرت في قصائده حتى وهو تحت وطأة المرض. ففي أبياته نلمح أن الأرض ليست مجرد ديار مهجورة، بل ذاكرة نابضة بالحياة، وأن الرجال ليسوا مجرد أسماء، بل رموز للشجاعة والوفاء. وبين الحنين للمكان والاعتزاز بأبطاله، ظل القافري يجسد صورة الفارس الشاعر الذي بقي صوته شاهدًا على أن حب الوطن والوفاء لأهله لا يزول مهما أثقل الجسد أو دنت ساعة الرحيل.

لقد ترك الشاعر معيض القافري الزهراني من خلال كلماته إرثًا وجدانيًا يعكس صدق الانتماء وعمق العلاقة بين الإنسان وأرضه. فالوطن ليس مجرد مكان يُسكن، بل هو ذاكرة تُسكن فينا، تبقى ما بقيت الروح، وتشتعل نارها حين يثقل الجسد ويقرب الرحيل.

ختامًا

يظل شعر معيض القافري علامة مضيئة في مسيرة الحنين الشعري، وصوتًا صادقًا يذكرنا أن حب الوطن لا يشيخ، حتى لو شاخ الجسد.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى