المقالات

فخر الأجيال ومسيرة التوحيد

يحتفي الشعب السعودي في الثالث والعشرين من سبتمبر من كل عام بذكرى اليوم الوطني، وهو اليوم الذي يخلّد حدثًا مفصليًا في تاريخ الجزيرة العربية، حيث أعلن الملك المؤسس عبدالعزيز بن عبدالرحمن آل سعود – طيب الله ثراه – في عام 1932م توحيد أقاليم المملكة تحت راية واحدة، ليؤسس بذلك دولةً حديثة تقوم على وحدة الأرض والإنسان، وتستند إلى ركائز راسخة من الشريعة والعلم والعدل· ويأتي هذا اليوم ليؤكد في كل عام استمرارية النهج الذي بدأه المؤسس، رابطًا الماضي بالحاضر في مسيرة نهضوية متجددة·

إن استحضار تجربة الملك عبدالعزيز يكشف عن شخصية قيادية استثنائية امتلكت عزيمة راسخة وبصيرة نافذة، واستندت إلى إيمان عميق بأن قيام الدولة لا يتحقق بالقوة العسكرية وحدها، بل يحتاج إلى تأسيس فكري ومعرفي متين· لقد كان للعلم والعلماء مكانة مركزية في مسيرة حياته منذ شبابه، فكان يجلس إلى حلقات الدروس ويصغي إلى العلماء ويستفسر منهم، فيظهر نبوغًا مبكرًا في الفهم والاستيعاب، وحرصًا واضحًا على أن تكون الدولة القادمة مؤسسة على أسس من العلم والحكمة·

وفي هذا الإطار، ينقل المحامي الدكتور عبداللطيف الخرجي – الأستاذ الجامعي السابق – ما توارثته أسرته من روايات عن جده القاضي عبدالله محمد الخرجي، الذي تولى قضاء الرياض والسمليه، وكان ضمن النخبة العلمية التي نهل الملك عبدالعزيز من علمها في مقتبل عمره· ويؤكد الدكتور عبداللطيف أن تلك الجلسات العلمية قد أسهمت في بلورة شخصية المؤسس، إذ جمعت بين الحكمة الشرعية والفهم العميق لواقع المجتمع، ورسّخت لديه وعيًا قانونيًا وعدليًا مكنه من الجمع بين حنكة القيادة السياسية ورسوخ المرجعية الدينية·

هذا التكوين العلمي المبكر منح مسيرة التوحيد بُعدًا حضاريًا عميقًا، فكانت ولادة الدولة السعودية الثالثة ثمرة رؤية تتجاوز البعد العسكري إلى بناء دولة مؤسسات، تتخذ من الشريعة مرجعًا، ومن أهل العلم سندًا في إرساء قواعد العدالة والتنظيم· وهكذا أرسى الملك المؤسس قاعدة أن العلم هو الأساس الذي تُبنى عليه الدولة القوية، وهو النهج الذي استمر مع أبنائه وامتداده في مسيرة الوطن·

واليوم، مع انطلاقة رؤية المملكة 2030، تتجدد ملامح ذلك الإرث في مشروع وطني يربط بين جذور الماضي وطموحات المستقبل· فقد جعلت المملكة من تنويع الاقتصاد والاستثمار في الإنسان والمعرفة ركيزة لاستدامة التنمية، وهو ما يعكس ذات الفلسفة التي آمن بها المؤسس حين أدرك أن النهضة تبدأ من العلم وتنمو به·

إن اليوم الوطني، وهو يستحضر تلك المسيرة الممتدة منذ عام 1932م، لا يمثل مجرد ذكرى تاريخية، بل هو تجديد للعهد بين الأجيال على مواصلة البناء على ذات الأسس التي وضعها الملك عبدالعزيز· إنه مناسبة تؤكد أن القوة التي تتمتع بها المملكة اليوم هي ثمرة إيمان مبكر بالعلم وأهله، وعمل دؤوب على توظيف المعرفة في بناء الدولة وترسيخ مكانتها، لتظل السعودية منارةً للعز والريادة في حاضرها ومستقبلها·

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى