في البيت الأبيض، وقف سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان والرئيس دونالد ترامب الثلاثاء الماضي ليعلنا مرحلة جديدة تماماً من التحالف. هذه المرة، الصفقة أعمق وأكبر: استثمارات سعودية تتجاوز 600 مليار دولار قابلة للتوسع إلى تريليون دولار، مقابل وصول كامل غير مسبوق إلى أحدث تكنولوجيا الذكاء الاصطناعي الأمريكية، و مفاوضات تعاون وشراكة نووية مدنية، وتعاون استراتيجي في المعادن الحرجة التي تشكّل عصب الاقتصاد الرقمي الجديد. الرسالة من واشنطن واضحة: السعودية لم تعد فقط مورّد طاقة موثوق، بل حليف تكنولوجي كامل.
أعلن سمو ولي العهد أن المملكة سترفع التزاماتها الاستثمارية في الاقتصاد الأمريكي من 600 مليار إلى تريليون دولار، في إشارة إلى ثقة استراتيجية بالاتجاه الاقتصادي الأمريكي ورهان طويل الأمد على الشراكة التكنولوجية. إن الشراكة الاستراتيجية للذكاء الاصطناعي تعتبر خطوة تاريخية تؤسس معلماً جديداً في العلاقة الثنائية. الاتفاقية ليست مجرد وثيقة دبلوماسية، بل إطار عمل متكامل يشمل توريد أشباه الموصلات المتقدمة، تطوير تطبيقات الذكاء الاصطناعي، بناء البنية التحتية المتقدمة والقدرات الوطنية، وتوسيع الاستثمارات عالية القيمة. في التوازي، أعلن الرئيس ترامب عن تصنيف السعودية “حليفاً رئيسياً من خارج الناتو”، ووقّع اتفاقية دفاع استراتيجي شاملة، وأشار إلى قرب الموافقة على بيع مقاتلات F-35 بمواصفات “مشابهة جداً” لتلك التي تطير بها إسرائيل، في رسالة واضحة عن عمق الثقة الأمنية بين البلدين.
اللحظة الفارقة جاءت من خارج البيت الأبيض مباشرة. أعلن جنسن هوانغ، الرئيس التنفيذي لشركة Nvidia، أن شركته ستبيع أكثر من 18 ألف شريحة من أحدث رقائقها “Blackwell GB300” – من بين أكثر رقائق الذكاء الاصطناعي تطوراً في العالم – لشركة “هيومين” السعودية، الذراع الوطنية للذكاء الاصطناعي المملوكة بالكامل لصندوق الاستثمارات العامة. هذه الصفقة، التي كانت مستحيلة قبل أشهر بسبب القيود الأمريكية الصارمة على تصدير التكنولوجيا الحساسة، تمثل تحولاً دراماتيكياً في الموقف الأمريكي.
ستستثمر هيومين في بناء مراكز بيانات بقدرة تصل إلى 500 ميغاوات، مدعومة بمئات الآلاف من أكثر وحدات معالجة Nvidia تطوراً على مدى السنوات الخمس القادمة. ستُستخدم رقائق Blackwell في مراكز بيانات داخل السعودية، في خطوة تهدف لجعل المملكة مزوّد قدرات حوسبة عالمي بحصة 6% من الطاقة الحوسبية العالمية للذكاء الاصطناعي بحلول 2034، مما سيجعلها ثالث أكبر مزود في العالم بعد الولايات المتحدة والصين. الطموح ليس مبالغة؛ خلال مكالمة أرباح Nvidia، ذكر هوانغ هيومين ثلاث مرات، وهو أمر نادر لشركة عمرها ستة أشهر فقط، ما يعكس الأهمية الاستراتيجية التي توليها Nvidia لهذه الشراكة.
النجاح المبكر لـ”هيومين” و”الهيئة السعودية للبيانات والذكاء الاصطناعي” في تطوير نموذج “علّام” يضيف بُعداً حقيقياً للطموح السعودي. أعلنت الهيئة أن نموذج علّام اللغوي العربي الكبير حصل على المرتبة الأولى عالمياً في فئته كأفضل نموذج لغوي توليدي باللغة العربية، وفقاً لمعيار Arabic MMLU، في إنجاز يضع السعودية في نادٍ ضيق من الدول القادرة على تطوير نماذج لغوية متقدمة محلياً. طُوّر النموذج من قبل كوادر تقنية وطنية في المركز الوطني للذكاء الاصطناعي التابع للهيئة، واستفاد من خبرات أكثر من 400 متخصص، واعتمد على مجموعة بيانات عربية ضخمة تجاوزت 500 مليار كلمة عربية. النموذج متاح الآن على منصة IBM watsonx ومنصة Microsoft Azure، ما يجعله متاحاً للمطورين حول العالم، في مؤشر على الثقة بالجودة التقنية للمنتج السعودي.
لكن التحول الاستراتيجي لا يقتصر على الرقائق والبرمجيات؛ إنه يمتد إلى سلسلة القيمة الكاملة التي تجعل الذكاء الاصطناعي ممكناً. وقّع البلدان اتفاقاً في المعادن الحرجة، يستهدف استكشاف واستخراج الليثيوم، الكوبالت، الجرافيت، وعناصر الأتربة النادرة – المواد الأساسية التي تشكل العمود الفقري لصناعة الرقائق والبطاريات. الصين اليوم تسيطر على أكثر من 70% من الإنتاج العالمي لهذه المعادن، وعلى 90% من طاقة التكرير، ما يجعلها المهيمن الأكبر على سلاسل الإمداد الحرجة. واشنطن تريد كسر هذه الهيمنة، والسعودية تمتلك الجغرافيا والاحتياطيات والرأسمال لتصبح شريكاً بديلاً. شركة “معادن” السعودية تمتلك احتياطيات مؤكدة من النحاس والفوسفات، إضافة إلى احتياطيات محتملة من الليثيوم في تبوك، والاتفاق الجديد يفتح الباب لشراكات تعدينية مع شركات أمريكية تستهدف بناء سلسلة قيمة محلية متكاملة تصل إلى التصنيع، لا مجرد تصدير خام.
في قلب هذا التحول يكمن تحدٍ كبير: مراكز البيانات الضخمة التي تستضيف نماذج الذكاء الاصطناعي هي مستهلكات شرهة للطاقة. مركز بيانات واحد من فئة “هايبر سكيل” يستهلك طاقة كهربائية تعادل 80 ألف منزل، وفي بلد صحراوي حار، تضاف تحديات التبريد الهائلة. لكن هذا التحدي يتحول إلى فرصة استراتيجية. وقّع البلدان اتفاقاً لتوسيع التعاون في الطاقة النووية المدنية، حيث من المتوقع أن تصبح الشركات الأمريكية “الشريك المفضل” للسعودية في تطوير الطاقة النووية السلمية. الطاقة النووية، إلى جانب مشاريع نيوم الضخمة للطاقة الشمسية وطاقة الرياح والهيدروجين الأخضر، تشكل استراتيجية متكاملة لتوفير طاقة نظيفة ومستدامة لتشغيل البنية الرقمية الجديدة. استخدام الذكاء الاصطناعي نفسه في تحسين كفاءة الطاقة – إدارة الأحمال الذكية، التنبؤ بالطلب، تحسين الشبكات – يمكن أن يخفض الاستهلاك بنسبة تصل إلى 20%، مما يحوّل التحدي إلى ميزة تنافسية.
الشراكة السعودية-الأمريكية في الذكاء الاصطناعي تمثل إعادة تعريف جذرية للعلاقة الاقتصادية بين البلدين. للمرة الأولى منذ عقود، التحالف لا يرتكز فقط على النفط والدفاع، بل على التكنولوجيا والبحث والتطوير والابتكار. الرهان ضخم، والطريق طويل ومعقد، لكن الخطوات المتخذة – من نموذج علّام إلى صفقة Nvidia التاريخية إلى المفاوضات النووية وشراكة المعادن الحرجة – تشير إلى جدية استثنائية في التنفيذ وإرادة سياسية واضحة لتحقيق التحول. النجاح يتطلب صبراً استراتيجياً، استثماراً ضخماً مستمراً في التعليم والبحث العلمي، وبناء نظام بيئي كامل يحتضن الابتكار ويدعم ريادة الأعمال المحلية. إن اقتصاد ما بعد النفط لن يكون حلماً بعيداً، بل واقعاً ملموساً يعيد رسم خريطة القوة الاقتصادية والتكنولوجية في القرن الحادي والعشرين.






