المقالات

في عيادة المنظمات: التأمل في التشخيص التنظيمي

حين تمرض الأبدان، نقف أمام الأطباء حائرين، نعرض أعراضنا ونترقب تشخيصًا يُعيدنا إلى الحياة. ولكن، ماذا عن المنظمات؟ ماذا عن تلك الكيانات التي تنبض كالكائنات، تتنفس عبر موظفيها، وتنهض كل صباح لتقاوم تيارات التغيير والتحديات؟ ماذا عنها إذا ما ظهرت أعراض التغيرات التكنولوجية، والتقلبات الاقتصادية، والتنافس المتزايد؟ كيف سيكون تشخيصها، وما آليات علاجها؟

هناك، في الزوايا الهادئة لمكاتبها، تُسمع همسات عن “التشخيص التنظيمي”. هو ليس طبيبًا أبيض الرداء، بل مجموعة أدوات، وعيون فاحصة، وآذان تصغي لما لا يُقال، تبحث في عمق المنظمة كما يبحث الطبيب في نبض المريض.

هو أداة علمية، تحلل وتتأمل، تبحث عن الجذور لا الأعراض، وعن الأسباب لا النتائج، وتهدف إلى كشف نقاط القوة والخلل، واستشراف آفاق التحسين والتطوير. تتدخل عند ظهور الخلل أو تتنبأ به، لا لتُصدر حكمًا، بل لتفتح باب الفهم، وتُنير طريق العلاج.

من خلال الجمع بين الاستبانات والمقابلات والملاحظات وتحليل البيانات والوثائق، واعتماد نماذج علمية، منها: نموذج بورك-ليتوين الذي يركز على العلاقة بين البيئة التنظيمية والنتائج، ونموذج ويزبورد الذي يحلل الأداء التنظيمي عبر ستة محاور مركزية، ويُوظّف في ذلك تحليل الفجوات (GAP Analysis) وتحليل سوات (SWOT) لتحديد المسافة بين الواقع والمأمول، واستكشاف الفرص والتهديدات.

لذا فهو طبيب ماهر، لا يكتفي بعكس الظاهر، بل يقرأ ثقافة المؤسسة كما تُقرأ التحاليل في أروقة المستشفيات، ويفسر الصمت كما يفسر مسببات الألم الكامنة. فالمنظمة لا تمرض دائمًا بصخب؛ أحيانًا تبدأ الأزمات في الصمت، في الإهمال الصغير، في توتر العلاقات، أو تآكل القيم. والتشخيص هنا ليس إدانة، بل وعيٌ ناضج، وسعي نحو التغيير.

التشخيص بداية لرحلة علاج وتنمية، وبحث مستمر عن التوازن بين الكفاءة والإنسانية، وبين الأهداف والأرواح التي تعمل من أجلها.

في زمن تتسارع فيه المتغيرات وتضيق فيه هوامش الخطأ، لم يعد التشخيص التنظيمي رفاهية، بل ضرورة وجودية لأي منظمة تسعى للحياة، لا للبقاء فقط.

هو صوت الحكمة في عالم مزدحم بالصراخ.
هو اليد التي تُشير، لا لتُعيب، بل لتُصلح.

في عيادة المنظمات، لا أحد كامل،
لكن كل أحدٍ قابل للشفاء.

وختامًا، كما أن الأفراد لا يُشفَون إلا بعد الاعتراف بألمهم، فإن المنظمات لا تتغير إلا بعد أن ترى حقيقتها كما هي، لا كما تتمنى أن تكون.

• دكتوراه في الإدارة التربوية والتخطيط من جامعة أم القرى

د. أماني ناصر عواجي

كاتبة صحفية - باحثة دكتوراة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى